
(1)
“الفن هو أقصى ممارسة للحرية، الفنون السردية مثل الشعر والأدب تتجاوز اللغة كأداة وضعية، وكأداة للتواصل، تُحوِّل اللغة إلى غاية في ذاتها، تعيد تشكيل اللغة لإعادة تشكيل الواقع” هذا د. نصر حامد أبوزيد في محاضرة جميلة له مسجلة على اليوتيوب (ومنقولة ببعض التصرف مني) بعنوان “الفن وخطاب التحريم”، فيها يتحدث عن المعارك التي كان يثيرها الفن منذ الأزل مع حراس العُرف وحراس السائد وحراس القوانين.
وذكَّرني هذا بحوارٍ لي مع أحد الكتاب كنت قد نوهت إلى اهماله للغة، فكانت حجته أن اللغة ليست سوى مطية للفكرة. ولعلّي نوهّت في مقالٍ لي أن ما يُميِّز الثلة الغرائبية الغامضة -بحسب وصف الكثيرون لمجموعة من الشعراء السودانيين الحاليين- هو أن اللغة هي -غاية في ذاتها- كما وصفها د. أبوزيد، وكثيراً ما تُطوَّع الفكرة من أجل اللغة في كتاباتهم. لكن إضافة نصر حامد حول أن السبب في ذلك هو: (إعادة تشكيل اللغة من أجل إعادة تشكيل الواقع) هو ما جعلني أنظر للأمر بعينٍ جديدة، ولفتت انتباهي أيضاً لحوارٍ جميل مع الكاتب الهندي “أرافيند أديقا” الحاصل على جائزة المان بوكر لروايته الخطيرة “النمر الأبيض”، وأَصِفُها بالخطيرة لأن الفنّ خطورة، ولا بد أن يستشعر الفنان ذلك في عمله، أنه يقوم بأمرٍ خطير. وهذا ما أود أن ألفت الانتباه له بالنسبة لنا الكتاب الذين لا زلنا نسبر أغوار هذا المجال، فالتدثر بعبارات مثل “إنه مجرد نص وليس شعراً” أو “إنه سرد وليس رواية” لا يجعل الكتابة بمعصم عن النقد، أيَّاً كان القالب، فلا بد أن يكون مرجلاً للخطورة ولا بد أن يكون للكاتب علّة في اختياره قالباً دوناً عن غيره، ولا بد أن تكون تلك العلة هي إحداث تغييرٍ ما- إذا لم يكن ذلك، فإن الكاتب لا الناقد، هو من يزري بكتابته بنفسه.
(2)
تمت استضافة الكاتب أرافيند أديقا في مدينته القديمة، منبت أصله، مدراس والتي أصبحت الآن تعرف باسم تشيناي. ورغم أنه يَصِفُ نفسه بالخجل، لكن واضح أن سعادته بالعودة للمدينة طَلَقَت لسانه فتحدث كثيراً. أنقل الحوار لأنه يضيء جوانب مهمة في حوارات تدور الآن في الساحة الثقافية السودانية، واحدة حول “الحنين للمدن القديمة” والثانية “الرواية كمجرد حدوتة”.
(نبذة سريعة عن “النمر الأبيض”: هي مروية على لسان “بطلها” في شكل خطاب مُوجَّه للرئيس الصيني بعدما علم من الأخبار أنه سيحضر في زيارة للهند، والرسالة عبارة عن مجموعة نصائح كي ما تُسهِّل للرئيس فهم الهند ومن ثم معرفة كيفية الاستثمار فيها. يتحدث من موقعه كرائد أعمال استطاع جمع رأس مال عمله بعد قتله لمرؤوسه الذي كان يعمل عنده سائقاً، قصة عجيبة فيها تبصرات جميلة وبلغة حية ونابضة وطاعمة جداً).
(3)
“تركتُ الهند فجأة عام 1990م بعد وفاة والدتي بالسرطان، وقد سبَّبَ رحيلها فتقاً كبيراً في حياتي لذلك تركت الهند وعدت إليها بعد عشر سنوات كصحفي لمجلة التايمز في نيودلهي، وفي الحقيقة كطفل نشأ في مدينة (مدراس)- عفواً أقصد (تشيناي)- كانت نيودلهي مدينة مدهشة وكبيرة بالمقارنة مع مدينة طفولتي، وعندها عرفت أنني أود الكتابة عن هذه المدينة. بدأت بمجموعة قصص قصيرة ثم الرواية، في الحقيقة أذكر تماماً اليوم الذي فكرت فيها بكتابة رواية “النمر الأبيض”، كنت في نادي للمراسلين والصحافيين الأجانب أتجاذب أطراف الحديث مع هندي من جنوب إفريقيا، كنت أحاوره لأعرف عن طبيعة حياة الجاليات الهندية الجنوب إفريقية، وحوالي الساعة السابعة مساءاً قررنا الرجوع إلى منازلنا فسألني (كيف سنرجع إلى البيت؟) فأجبت (كما كل يوم- سنركب الركشة)، فذُعر الرجل وقال لا، سيقتلوننا ويسلبون مالنا! فأجبته باستغراب: لا لن يحدث ذلك، فأخبرني أنه في ديربان في جنوب إفريقيا لا يمكن للمرء أن يفكر في التمشي وحيداً في الطرقات ليلاً. وكان الأمر مدهشاً له أن الهند آمنة -آمنة للرجال بالطبع وليس للنساء- خاصةً وأن الهند تشبه جنوب إفريقيا في العديد من المناحي؛ فكليهما بهما فجوة طبقية متسعة، ولهما بنية اجتماعية تلعب فيها العمالة المنزلية دوراً كبيراً. كما تعلمون أن العمالة المنزلية في الهند تلعب دوراً كبيراً يصل حدَّ أن يكون لهم مدخلاً لأموال مرؤوسيهم وحيواتهم الخاصة. بوسعك أن تأتمن العامل المنزلي على مبالغ كبيرة من الأموال ليودعها لك في البنك أو أن تأتمنه على توصيل أبنائك للمدرسة. ومع ذلك ليس لدينا تلك المشاكل الإجرامية التي نسمع عنها في جنوب إفريقيا أو في أمريكا اللاتينية. أعلم أن الكثيرين منا يشعرون أن الهند بلد غير آمنة، لكنها، إحصائياً، بلد إلى حدٍّ كبيرٍ آمن برغم الظروف التي يجب أن تؤدي لمعدلات أعلى في الجريمة، وهي كما ذكرت فوارق طبقية كبيرة، والمدخل الذي يجده الفقراء والعمال المنزليين لثروات مرؤوسيهم. وقد ضايقني هذا السؤال لفترة طويلة، لماذا الهند آمنة؟ وتحت أي ظرف يمكن لنظام الأمان هذا أن يتغير؟ وحاولت الإجابة على هذا السؤال عبر مجموعة قصصية في البداية فيها قصة معنونة باسم “بين الاغتيالات” ثم توسعت فيها في روايتي النمر الأبيض”.
(4)
ولعلَّ في إجابة أرافيند هنا علة الرواية السودانية بعد الطيب صالح؛ حيث نجد في معظمها غياب السؤال، كثير من الروايات هي إقرار أو إجابة أو عرض فكرة، لذا برغم براعة التصوير ورسم الأحداث سرعان ما يداخلك الملل حيث لا يغيب عنك إما خفة الرواية أو نبرة الوعظ فيها. وقد فصَّل الطيب صالح فكرة السؤال الذي يتم اكتشافه عبر الرواية في أكثر من حوار صحافي معه.
(5)
الناشر الإنجليزي لرواية النمر الأبيض يسأل أرافيند “لكن نيودلهي في روايتك ليست مدينة آمنة”؟
“دعني أعود بك لقصة طريفة، كنت أعمل في صحيفة التايمز في نيودلهي وكان رئيس التحرير إنجليزي يُدعى لوك بيري، وهو رجل طيب وصحفي بارع، وكان للوك سائق اسمه راكيش، وكان على الدوام حين ينتظر مديره يقرأ سلسلة مجلات بعينها، وكلما مررت به أجده يقرأ هذه المجلة باللغة الهندية، وكما تعلم الهندية ليست لغتي الأولى فقد عشت في بانقلور طوال حياتي، لذا ظننت أن هنديتي التبست عليَّ أثناء قراءتي لعنوان المجلة، لأن المجلة كان عنوانها (الجريمة)، فسألت راكيش عن المجلة التي اتضح أنها مجلة قصصية شعبية مشهورة ومحبوبة لدى مجتمع السائقين في نيودلهي، وهي عبارة عن مجموعة من القصص، فيها يقتل السائقين مرؤوسيهم!! وراكيش، بالمناسبة، هو سائق طيب وشخص مؤتمن ولكن ها هو يقرأ الرواية أمام مرؤوسه الغافل عن كل هذا، والمجلة كما قلت لك مشهورة جداً ويتم طبع أعداد ضخمة منها.
وقتها كنت أسكن في حي اسمه نظام الدين، وكان فيه مزار يحضر إليه العديد من الفقراء من الولايات القريبة وجلّهم يبيتون في العراء قرب المزار لأنهم لا يجدون مكاناً يبيتون فيه، وهو منظر مدهش للهند الليلية التي لا يراها الناس؛ تجدهم يجلسون في ثُلل حول أعمدة النور يقرأون الصحف اليومية بلغاتهم المتعددة، ثم فجأة تراءت لي صورة في خيالي: رأيت كل هؤلاء الرجال عاكفون يقرأون مجلة الجريمة، وبدأت أفكر في الهند، والتي هي إلى حدٍّ ما مجتمع حر بالنسبة لرجل من الطبقة المتوسطة مثلي، ففكَّرت: هل توجد أنظمة للسيطرة الاجتماعية على هذه الجموع؟ وما هي تلك الأنظمة؟ لأن صورة كل هؤلاء القراء لمجلة الجريمة، والتي فيها قصص يقتل السائقون مرؤوسيهم -بالطبع في كل القصص يتم القبض على المجرم، وأظن أن القصص تعمل كمنفَذ لمشاعر مكبوتة- تطرح السؤال: ما الذي يجعل الهند آمنة؟، وعندها كتبت النمر الأبيض وفكرت في الظروف التي يمكن فيها للهند أن تتغير. تعرف؟ لقد كنت دوماً مفتوناً بفكرة التاريخ المُغاير للهند، فمعروف أن القصص المروية عن استقلال الهند ليست صحيحة بأكملها، وأعتقد أن دور الكاتب هو نبش هذا التاريخ المغاير. واحدة من ذكريات الطفولة هو قراءتي لحوار مع الفنان أوتبال دات، وكلنا نعرفه كفنان كوميدي هزلي ولكنه في شبابه كان نكسلي (الماويين الهنود) وكان قد أخرج مسرحية عن تمرد بومباي، والتي تحكي عن تمرد ضباط البحرية وأن هذا التمرد المسلح كان السبب الرئيسي في خروج الإنجليز من الهند، رغم أن الكثير من الهنود سيقولون إن الإنجليز خرجوا بسبب المقاومة السلمية تحت قيادة غاندي، وأن أحداثاً مثل تمرد البحرية في بومبي أو انتفاضة تيليقانا وانتفاضة الجيش الهندي كانت محاولات مسدودة، وأوتبال دات كان يشكك في كل ذلك ويرى أن العنف هو كان السبب في حصولنا على الاستقلال، وأذكر انبهاري حين قرأت هذا الحوار وأنا في العاشرة أو الحادية عشرة من عمري، وهرعت نحو المكتبة لأبحث عن كتب التاريخ الموازي للهند وركزت على كتابات اليسار المتطرف واليمين المتطرف، وقد ألهمني هذا بكتابة إحدى قصصي القصيرة. لكن النمر الأبيض ليست تاريخاً مغايراً بل يمكنك القول إنها مستقبلٌ مغايرٌ للهند. النمر الأبيض رواية عن الحرية وعن كيف يصبح الرجل حرَّاً وعن أنه كيف يمكن أن يكون العنف شيئاً مُحَرِّرِاً”.
الناشر: الكثيرون في الهند ممن قرأوا الرواية اعترضوا عليها بشدة وقالوا إنها تنقل صورة مشوهة عن الهند، رغم أن الرواية هي لوي للحقائق بشكل ما لخدمة السرد، ما رأيك؟
“أوه يا إلهي! نعم، أذكر أنك قلت لي إن أحد القراء كان غاضباً وأنه نادى سائقه الخاص وخدم البيت أمامك ليشهدوا بحسن المعاملة وما إلى ذلك. بحق الله يا هنود ما هذا؟. المدهش أن ما أثار حنق الناس لا يتعدى قل 15% من ثيمة الرواية، لكن قلب الرواية، حين شرعت في تكوينها في خيالي، كانت حول الحرية، وكيف يصبح الرجل حراً وحول معنى الحرية لمهاجر للمدينة حين يصل إلى نيودلهي.
في صغري كنت منبهراً بكتابات سودير كاكر في الثمانينات، وهو من المثقفين القلائل الذين قدموا تحليلاً للنقد الأجنبي لأدب الهند، وهو محلل نفسي، وكان قد كتب عن التحولات التي تحدث في قصص المهاجرين للمدن، القرويين الذي يحضرون لمدن الهند الكبيرة وكان يكتب عن التحولات من ناحية اقتصادية، وكتب أيضاً مجموعة مقالات حلَّل فيها الرسائل التي يكتبها المهاجرون للمدن لذويهم في القرية، ومحاولة فهم التغيُّر الذي يحدث لهم في المدينة، وأهم التغيرات التي لاحظها كاكر هي أن المهاجر يستعيد السيطرة على جنسانيته، فيحدد من أمر زواجه وأمر حياته الجنسية، وهو أمرٌ مُحَرِّرٌ للغاية وفي ذات الوقت مُهَدِّدٌ للغاية، لأنه برفضك للزواج التقليدي المُدَبَّر فأنت تقطع صلاتك بمجتمعك، بطائفتك، بقريتك. وكان من الملاحظات التي دَوَّنها كاكر، والتي وخلقت أثراً عميقاً عندي، هو أنه في خطابات المهاجرين لذويهم في القرية كثيراً ما يتكرر موتيف أو ثيمة “حيوان” التي لا تكاد تخلو منها الخطابات؛ فقد يُركِّز المهاجر على ببغاء مثلاً ويتكرر حكيه عنه في الخطاب، وقد فسَّر كاكر ذلك أن ثيمة الحيوان هذه قد تكون الطريقة التي يتعامل بها المهاجر مع جنسانيته وهذه الحرية الجديدة المكتسبة، وقد عَلَق ذلك في ذهني وبالتالي كانت فكرة النمر الأبيض”.
الناشر: ولماذا اخترت نمراً أبيضاً؟
“كان ذلك في تجوالي في الهند، وفي مرة زرت حديقة الحيوان وقد لفت انتباهي هذا الحيوان، كان النمر الأبيض بالخطوط السوداء على جلده الأبيض حين يتجول في القفص يتماهى مع القضبان السوداء والفراغات البيضاء فيبدو أثناء مروره وكأنه يتحلَّل وكأنه يذوب، فكان أمراً مثيراً في وسط هذه الحيوانات المسجونة والتي تبدو وكأنها على حافة الجنون والهذيان.
لكن تعرف، المثير في الأمر أنه طوال السنوات التي تلت نشر الكتاب لم يسألني أحد عن رمزية النمر الأبيض ما عدا شخص واحد أعتقد فهم ثيمة الكتاب، وهو مخرج سينمائي في بومباي وذهبت للقائه لأمر ما في مكتبه، وكعادة أهل بوليوود فقد تم لطعي لمدة ساعة كاملة قبل أن يحضر، وعندما حضر وقف بعيداً وظلَّ يحملق فيَّ لمدةٍ طويلة شوَّشتني قليلاً (حتى أخبرني صديق لاحقاً أن هذا المخرج يفعل ذلك مع كل شخص غريب يأتي للمكتب، حيث يحاول أن يتذكر إن كان مديناً له بالمال وإن كان عليه الفرار)، المهم بعد أن اطمأن لجانبي جلسنا في المكتب وسألني: يا سيد أديقا أنا أعرف أنك شخص مشهور ولكني نسيت فيم شهرتك؟
فأجبته إنني كنت نشرت كتاباً وكذا، فأجاب: آه نعم كتاب عظيم، أنا لست رجلَ كتب، ولا أحب القراءة، أخبرني في سطر أو سطرين عن حبكة الرواية. فأخبرته إنها رواية تدعى النمر الأبيض وتحكي عن سائق يقتل مرؤوسه في هندي. فصاح: عظيم ممتاز قصة رائعة، لكنك اخترتَ عنواناً رديئاً، فسألته: ولكن لماذا؟ فأجاب لأن النمر الأبيض حيوان بديع وهو حيوان مسالم لا يؤذي أحداً، هذا عنوان يصلح لرواية حب لا لرواية جريمة، فجلست أفكر أن من بين كل الذين قرأوا كتابي وحده هذا الرجل الذي لم يقرأ كتابي قد التقط فكرته”.
(6)
ثم ردَّ أرافيند على سؤال عن مدينة طفولته ومنبت أصله مدراس والتي أصبح اسمها تشيناي، وقد لفتت إجابته انتباهي لحكاوي الحنين التي يجترها الخرطوميون والأمدرمانيون وأهالي المدن السودانية. قال:
“تشيناي التي كبرتُ فيها لم يعد لها أثر، كنت قد حاولت من قبل التجول فيها باحثاً عن ملامح طفولتي، ولكني اكتشفت أن هذا كان خطأً؛ ما عدت أزور المدينة كمسافر عبر الزمن، بل أصبحت أتطلع لحاضر ومستقبل المدينة، وأذكر أني كنت أبحث عن كتاب عن تشيناي في مكتبة في بومباي فوجدت كتاباً اسمه: تشيناي لا مدراس، وقد غير الكتاب نظرتي لمدينة طفولتي تماماً، فقد ناقش الكتاب كون مدراس مدينة إنجليزية في الأصل وأن تشيناي هي مدينة هندية، وأن هذا التحول الذي حدث في المدن قد أطلق فيَّ طاقات مهولة.”
الناشر: لكن ألا ترى أن مهمة الكاتب هي في استعادة الماضي عبر كتابته أم أن الأمر عاطفي زيادة عن اللزوم؟
“ممكن أن يكون ذلك، لكن الأكثر تشويقاً هو فهم ديناميكية المدينة الحاضرة. تعرف، الكثيرون يعتقدون إن مدراس هي مدينة محافظة، لكن الأمر عكس ذلك تماماً، كانت مدينة راديكالية. أذكر أنني قرأت في أرشيف المدينة عن توصيات كبارها بأن يتم فرض تعليم الرقص لبنات المدينة في وقت كانت الهند تنظر إلى الرقص وكأنه أمر ساقط، وقد عَلقت في ذهني عبارة من رواية إيطالية تُدعى “الفهد”، والتي كان تتحدث عن تحول مدينة صقلية من ماضيها الأستقراطي لحاضرها المديني، فتقول إحدى شخصيات الرواية الأستقراطية (لا بد أن يتغير كل شيء ليبقى كل شيء)، وتشيناي مدينة راديكالية للغاية، تتطلع للحاضر أكثر من الماضي.
(7)
أليس هذا المقطع عجيباً؟ والاقتباس؟ (لا بد أن يتغير كل شيء ليبقى كل شيء على حاله)؟ صحيح أن السلطة لم تألوا جهداً في طمس روح المدينة وخذلان روادها وتكبيلهم بالغلاء وبالقوانين وزحف الرأسمالية الطفيلية المسمسرة، إلا أن حالة النوستالجيا الآن في الخرطوم وأمدرمان تتطلع نحو الماضي وتجترّ القديم وتودّ تجميده في الحاضر، وهو المُنَافِي لروح المدينة التي يحنون إليها؛ حيث كان روادها متحركون أحياء نَهِمُون للحاضر ساخطون على الماضي، رافضون للسكون. -فهذه الديناميكية القديمة للمدينة هي ذاتها ديناميكية المدينة الحاضرة، ربما علينا أن نتطلع بفضول لديناميكية سوق ليبيا بدلاً من صب اللعنات عليها، والثورات والجرافة والفتح والفردوس والمعمورة والحاج يوسف وغيرها- لا أعني تمجيدها! هذه كمان نظرة رومانسية مريضة، لكن تضمينها في خطاب يوتوبيا المدينة.
(8)
يواصل: “قبل فترة وجدت اسم صديق طفولة في الصحف، وقد أصبح من أصحاب الأعمال وأحد المتنفذين في المدينة، وأذكر أنه كثيراً ما كان يصطحبني للسينما ليقوم بترجمة الفيلم للّغة التأملية التي أنا ضعيف فيها، كنا نقضي أوقاتاً جميلة، وفكرت أن أزوره وأبحث عن طفولتي فيه لكني سرعان ما عدلت عن الفكرة، لأني تذكرت وقتها أنني حينها سأتقهقر نحو مدراس بينما عليَّ التقدم نحو تشيناي.”
الناشر: لكن ألم يكن هناك شيء من الغواية لمقابلة صديقك؟
“في رأيي أن الغواية في تشيناي هي التطلع قدماً”.
نقلاً عن ملف الممر الثقافي