
(1)
“يا موسى، موسى! أنا محمد المرزوق ممكن أتكلم معاك؟”
كانت الكاميرا تتابع رجلاً نحيلاً مُعفَّراً في خور، منهمكاً في لملمة وتصفيف أوراقٍ مهملة، يختلس نظرات طفولية نحو الكاميرا ثم يخاتلها مديراً ظهره لها.
هناك شيء مؤثر في نداء المخرج محمد مرزوق لموسى، دعوني أضيف، هناك خطورة في ندائه، تلك الخطورة التي وصفتها في مقالي السابق حول الفن الذي يرجُّ السائد، يروي المغاير، يفتح باب الاحتمالات.
التجربة السينمائية المعاد بعثها في السنوات الأخيرة جاءت حُبلى بالكلام الذي لطالما تم كبته وحبسه بسبب هواجس السلطة التي كانت تحاول -دون جدوى- فرض سيناريو مُوحَّد لما يحدث، ثم عندما فَشَلَت حاولت التحكم في مساراته، وعندما فشلت في ذلك أيضاً لم يبقَ لها سوى وضع العوائق المادية والمعنوية أم هذا البوح والفضفضة البصرية.
(2)
تناولت التجارب الفلمية مواضيع شتى اجتماعية وسياسية وثقافية كانفصال الجنوب، قمع المرأة، القمع السياسي، اجترار ماضٍ كان مبشِّراً بالكثير وحاضر عاقر: أطفال الشوارع، النزوح، يأس الفنان وموت الإبداع. هذا الفتح السينمائي يسقي الآن أوردة الشارع السوداني التي تيبست بالصمت المفروض من الدولة. وكلها تحمل عنصر خطورة ربما في التصوير، في القالب الفني، حتى في مجرد كسر النمط المفروض: إننا عاجزون عن الإبداع.
لكن من ناحية الموضوع، أعتقد أن فيلم (موسى) يفارق الأفلام الناشئة في أنه لا يحدّثنا بما يدور أصلاً في دواخلنا ونعجز عن الإفصاح عنه، ولا يسرد وجهة نظر مقررة من قبل صانع الفيلم، حتى إن بدت في شكل تساؤل: من المسئول؟ أو من المذنب؟.
لا، فيلم (موسى) هو رَجَّة للمفاهيم المجردة في دواخلنا للصواب والخطأ، المذنب والبريء، السلم والعنف، وهي مفاهيم في الحياة يتم التنقل بينهما في سرعة مدوخة أو الجمع بينهما بشكل يبدو في عالم التنظير النقي مستحيلا،ً لكنه ظلَّ ممكناً ومعايشاً كل يوم. قبل أن أستمر أنا أيضاً في التنظير المجرد، إليكم هذه القصة القصيرة من القاص الحكاء عماد عبد الله.
“دبَّاب جهادي مليشي أيام الهوس بتاع ساحات الفداء داك.. وهو في الجنوب وسط كورجة المجاهدين، بينهم وبين ناس الحركة الشعبية زي مية متر بس، يرفع راسو وسط القش ويكورك للعساكر بتاعين الحركة:
(الله مولانا ولا مولى لكم) – كرررررررططططط يفتح نار في عساكر الحركة –( قتلاكم في النار وشهداؤنا في الجنة) وكرررررررطططط يفتح نار.
كل ما يقول كده، يقوم يرد عليهو من بهناك واحد من عساكر الحركة:
(مندوكورو قونجيبنق كونانقي)، كرررررررططططط – ويفتح فيهو نار (جنى أَرَب أواليقين فطيس) وكرررررررطططط يفتح نار.
بالطريقة دي زي شهر.. كل يوم شتيمة ونبيحة زي ده، قوم يا المجاهد بتاع الكواريك طقتو ليك ملاريا جوه القش داك جدعتو دلقان. يوم كااااامل وهو المسكين راقد، مافي أي كواريك ولا نبيحة. قريب المغربية كده بتاع الحركة الشعبية بهناك قعد يكورك ليهم:
(هوووووي يا جنى أراب أواليقين إنتو.. وين زول فطيس تااا جنَّة ونار وحركات ده؟؟
الدبابين ردوا ليهو:
(عيان يا عدو الله.. عيان)
بتاع الحركة رد ليهم:
(أليك الله؟؟ قول ليهو سلامتك يا أواليق.. تعال سرييء سرييء شان أنينا زهجنا(
و.. كررررررررررطططط فتح فيهم نار.
—–
انتهت قصة عماد عبد الله، وعماد قاص خطير وهذا حديث له أوانه، أذكر قبل سنوات بعيدة وإبان ازدهار منبر سودانيز أون لاين، تم تناول قضية الجنوب -كان ذلك قبل الانفصال- وتعالت الصياحات المكتوبة ما بين ممجد لهذه الرابطة الوطنية الفريدة وما بين مندد لسياسات التفرقة، وكان هناك تساؤل مني، ضمن تيار شبابي مُشكِّك في هذه المسلمات عن حقيقة هذه الروابط، ما الذي قدمناه تجاهها غير أناشيد المحبة أو العويل؟، وتأملت في غياب الجنوب في عهد السلم وحضورها الكامل في فترات النزاع، أصبحت أسماء المدن كنمولي وكاجو كاجي وأويل وغيرها حاضرة في الذاكرة الشعبية السودانية، بالطبع لا بد أن أوضِّح، خاصة في عهد التجريم والإدانة الإلكترونية السهلة، أني هنا لا أمجد الحرب بأي حال من الأحوال، ولا أعني أني أراها كآلة علاقات عامة جيدة، بل هو تأمل في حالنا العجيب حين نركن للتجريد الرومانسي بدلاً من أن نواجه أنفسنا بالأسئلة الحقيقية، في القصة أعلاه -بتأويلي أنا- علاقة حقيقية، دموية نعم، خشنة نعم، لكنها كانت الأقرب من كل الهتافات الجوفاء، المهتمة بتجميل الذات بالتسامح لا بذل اليد في معرفة الآخر، المفعمة بروح المحبة المتعالية لا التواحل في الندية.
فيلم (موسى)، والذي عُرض في مهرجان الشفاء السينمائي بمدينة بورتسودان، إثر ورشة تدريبية لصناع الأفلام الهواة عام 2013م، يحكي قصة موسى والذي كان عسكرياً، ويبدو من الفيلم أنه شارك بحماسة في حرب الجنوب تحت أكذوبة الوحدة الوطنية التي تدثرت بها الجبهة الإسلامية وقتها لتعطي لنفسها شرعية ما، فسفكت دماء المدنيين وشردت الملايين منهم وألقت بآلاف الشباب في أتون الحرب، شارك فيها، في حمرتها وجذوتها عام 1991م وأصيب في ساقه بعد سنتين، نُقل إثرها للخرطوم حيث قضى الطبيب ببتر قدمه. يرفض موسى أن يتم البتر فتتفاقم حالته النفسية وبدأت مرحلة شروده في الخيران بعيداً عن الناس، تتصاعد حالة موسى بعد إعلان انفصال جنوب السودان ويبدأ في مسح وجهه بالسكن الأسود في موقف رافض لانتهاء المشروع الذي فداه بجزءٍ من جسده. وقتها ملأنا صفحات الفيسبوك بقلوب مكسورة وخريطة سودان باكية على ضياع بنطلونها(!!). ثم انصرفنا إلى أحوالنا. في الفيلم حوارات متعددة من زملاء موسى في السلاح، وبعكس معظمنا فإن الانفصال حالة متجذرة في داخلهم، حالة حزن معاش، ليست وصائية، لا، الوصائية كانت عندنا نحن أهل التجريد، لكنها شيء آخر لمن خاضوا عميقاً في الدم، شيء يتجاوز الحسرة (والتي هي موجودة بالطبع) لكن لعله ذلك الأمر تحديداً، خوض الدم- دم “المجاهد” و”دم المتمرد”، الإنسانية التي تبدت في سفك الإنسانية، غريب؟ في الأدب ليس غريب، وقد ورد كثيراً. في مقطع من الفيلم يقول أحد رفاق موسى “عندي مجسمات لحيوانات في بيتي، ويغضب موسى كثيراً عندما أضع الأسد خلف الغزالة مهاجماً، فيغير وضعها ويقول: على الجميع أن يعيشوا في سلام”.
عندما شاهدت الفيلم برز في ذهني شخص كنت أرى أنه سيلتقط روح الفلم، وهو القاص عماد عبد الله، علَّق الكثيرون على الفيلم بحزن وتناولوا المأساة، لكن عماد لن يفوت عليه أن الفيلم قصة حب، لن تفوت عليه تلك الحفاوة والسعة التي يبديها أهل قاع المدينة بأحوال المنبوذين الضائعين، يقتسمون وقتهم الثمين، ولقمتهم العزيزة، وقلبهم المزدحم بالهموم. ففي وسط المدينة التي تشنأ موسى بالتجاهل: العربات المتسارعة، الطلاب المستعجلون، الموظفون الهرعون كلها في تناقض حاد مع حميمية الأيادي المحتضنة في حفاوة لموسى في الأزقة الطينية الضيفة. سعة في الضيق! وهذا ما تجده كثيراً في كتابات الطيب وعماد. وفلم محمد المرزوق.
ومحمد، إضافة إلى مشروعة الفلمي، هو مصور وفنان عازف للفلوت وعمل متجولاً في أرجاء السودان في العديد من مشاريع التنمية والتعليم وهو والد لطفلة تدعى: سلام.
لمشاهدة الفيلم: أضغط هنا