يا وراد الماء علّ المطايا
وصب لنا وطنا في عيون الصبايا
فما زال في الغيب منتجع للشقاء
وفي الريح من تعب الراحلين بقايا
(الثبتي)
1
لا تزال جريدة الصحافة تتعطر بندى و(صدى) كلمات آمال عباس وبسمتها الوضيئة وروحها السمحة. استمدت آمال تلك الروح من وجدان قديم عامر بأذكار الصوفية التي تشبعت بها من ليالي المديح الطوال التي كان يفوح عطرها من مسجد الشيخ حسن قريب الله بود نوباوي، الحي الذي عاشت فيه آمال طفولتها.. كانت آمال عباس زينة بنات جيلها، ذلك الجيل اليساري الجميل الذي كان حماسه للسودان وعمق حبه لإنسانه يدفعه ليعطي بلا وعد حالما بالسودان الحر الديمقراطي الكريم.
كنا حين نجلس لآمال عباس في صالة جريدة الصحافة (2003-2007) التي أسعدتني الأقدار فيها بلقاء آمال عباس، نعجب بثقافتها الواسعة وقدرتها على احتمال الآخر، وكنا حين نستمع لحكاياتها وتجاربها الثرة والتي لا نملها نندهش من مقدرتها على احتمال الأذى الذي لاقته من الكل، إسلاميين وشيوعيين وحتى مايويين، امرأة تصارع كل تلك التيارات في مراحل مختلفة من حياتها وتبقى صامدة في الحياة العامة، لجديرة بالاحترام والمحبة. حين أتذكر حكايات آمال عن مشوارها الطويل في عالم السياسة والصحافة منذ تخرجها في الاحفاد إلى أن مشت أولى خطوتها الصحفية في مجلة (صوت المرأة) التي كانت تصدر في خمسينيات القرن الماضي والتي كانت ترأسها الأستاذة فاطمة أحمد إبراهيم، مرورا بنضالاتها السياسية في مختلف المراحل والعهود إلى معاركها الصحفية المستمرة، أتأمل عالمها الجميل وأيامها الزاهية (بحلوها ومرها) التي أثرت حياتها ووهبتها معناها العميق.
2
حين تتصفح ألبومها منذ يفاعتها الباهية في حواري أم درمان تشدك الصور إلى ذاك القوام الممشوق والشعر المتهدل على الكتفين وبعض يتبعثر، وعلى أيام مايو يصعد ليصبح كتاج على الرأس.. رغم أن ذاك الجمال الأثير لم يغر آمال بالانتباه لصورتها ولا لزينتها قالت لي: (لم أتمكيج قط إلا في يوم خطوبتي)، طبيعي خلقة ربها لا بدرة لا أحمر، في وقت انشغلت فيه غالب بنات جيلها بالأفندية ونجوم الفن واصطياد الفرائس من العرسان، كانت هي تتعلم السياسة في مدرسة الحزب الشيوعي وتقتحم سماوات العمل العام. حين كانت بنات جيلها يغنين: (الله لي.. الليمون سقايتو علي) كان هي تردد مع وردي: (يا سمحة قومي اتقدلي) وتغني لعثمان حسين وحسن عطية وكل أساطين الغناء الجميل في أواخر الستينيات.
حين كانت بنات جيلها يطالعن (الوسادة الخالية) لإحسان عبد القدوس وما شاكلها، كانت هي تغوص في طبقات ود ضيف الله وأشعار ود شوراني، كان عالمها وأحلامها بلا سقف.
3
مايو بالنسبة لها حلم لم تصح منه حتى الآن، وكانت جسارتها في الدفاع عنها، منذ انتقلت إليها من صفوف الحزب الشيوعي في أوائل سبعينيات القرن الماضي، لا تشبهها أي جسارة أخرى، كنا في الجامعة حين نهرع لنقرأ لآمال عباس في جريدة الأيام في ثمانينيات القرن الماضي وهي تتأوه من (العمق العاشر) نعجب بقدرتها على الدفاع عما تؤمن به بقوة ومنطق رصينين. ولكم أعجبنا بمساجلاتها القوية مع الأستاذ ياسين عمر الإمام (رحمة الله عليه) حول المصالحة الوطنية (1976)، التي وقفت وعملت ضدها وتُحملها حتى الآن مسؤولية سقوط مايو. ولا زالت أذكر يوما عجيبا في ندوة بجامعة الخرطوم في الثمانينيات حين هاجت الأستاذة فاطمة أحمد إبراهيم (أستاذة لآمال في الأحفاد) ووجهت نقدها القاسي وشتائمها إلى آمال عباس الحاضرة في الصفوف الأمامية في ذات الندوة، وعندما اعتلت آمال المنصة كتمت الصالة أنفاسها وكنا ننتظر (ردحي) وردّا يشبه فصاحتها، إلا أن آمال فاجأتنا بصوتها المؤدب الرخيم قائلة: (ما قالته فاطمة على عيني ورأسي فهي أستاذتي ولن أرد عليها).. هنا دوت الصالة بالتصفيق، لكم أحببت وأعجبت بآمال وروحها السمحة منذ تلك الليلة ولا أزال. نواصل السبت المقبل إن شاء الله.