رأي

الصديق المريود يكتب: كيف يستقيم الظل والعود أعوج؟

في 26 يناير 1885، حقق أبطال الثورة المهدية بقيادة الإمام محمد أحمد المهدي وخليفته عبدالله التعايشي ملحمة تاريخية عندما تمكنوا من تحرير الخرطوم، معلنين بذلك استقلال السودان الأول. كان هذا الحدث نقطة تحول حاسمة في تاريخ البلاد، حيث أسسوا دولة وطنية قائمة على قيم العدالة والمساواة والكرامة. وقد تحقق هذا النصر بفضل وحدة الشعب السوداني وتضحياته من مختلف أنحاء البلاد، حيث كانت كردفان ودارفور في الطليعة من خلال أبنائها الذين سطروا هذا التحرير بأرواحهم.

انطلقت طلائع جيش التحرير من مختلف أقاليم السودان، من النيل الأبيض والجزيرة، مرورًا بالشرق والشمال والجنوب، حيث توحدت الشعوب ضد الطغيان والاستبداد، لتعلن ولادة دولة تسعى لتحقيق العدالة والمساواة بين جميع مكوناتها. هذا هو الإرث الذي نفخر به اليوم ونسعى جاهدين للحفاظ عليه.

لكن مع قيام الدولة الوطنية الثانية في عام 1956، بدأت تلك المبادئ التي أسسها الآباء المؤسسون في الانحراف. تم تأسيس جيش سوداني عقيدته الأساسية حماية قلة قليلة وقمع كل من يعارض مصالحها، وهي نفس العقيدة التي كانت تروج لها القوى الاستعمارية، ما أسفر عن بقاء النظام القديم الذي كان يهدف إلى قمع أي تهديد لمصالح المستعمر. وتجمع السلطة والثروة في يد عدد قليل من البيوتات ورجال الأعمال وزعماء الطوائف الذين استغلوا البسطاء في العمل الزراعي بنظام يشبه الإقطاع، مقابل الطعام والكساء. هكذا تكدست الأموال في حساباتهم البنكية على حساب هؤلاء الناس البسطاء، ليؤسسوا بذلك واقعًا سياسيًا يخدم مصالحهم وأسرهم فقط، بينما ظل الشعب يعاني.

تحولت البلاد إلى دولة مصالح، عُرفت فيما بعد بدولة 56، بدلاً من أن تكون دولة العدالة والمساواة. تم اختطافها من قبل مجموعات عرقية وجهوية ضيقة، لتترك السلطة والثروة في يد قلة قليلة، بينما تم تهميش المناطق الهامشية وسكانها. أدى هذا التهميش إلى استبعاد قطاعات واسعة من الشعب عن عملية صنع القرار، مما خلق حالة من الظلم والاحتقان الذي غذى الصراعات في أنحاء البلاد.

كان هذا الانحراف هو الشرارة التي أشعلت سلسلة من الحروب المدمرة، بدءًا من حرب الجنوب التي استمرت لعقود، مرورًا بحروب دارفور وكردفان، وصولًا إلى الحرب الحالية التي اندلعت منذ عامين بعد استيلاء نظام الإخوان المسلمين على السلطة. هذا النظام، الذي دعمه أيضًا عدد من الفئات الانتهازية من “دولة 56”، أوصل البلاد إلى حالة من التدمير المستمر، مهددًا بتقويض ما تبقى من أسس الدولة.

إن هذه الحروب هي نتيجة مباشرة لسياسات التمييز والإقصاء التي رسخت الفقر والحرمان في المناطق المهمشة، وأضعفت الوحدة الوطنية التي كانت في يوم من الأيام حجر الزاوية للدولة السودانية. اليوم، ونحن نحيي ذكرى تحرير الخرطوم، يبدو أن الوقت قد حان لإعادة النظر في مفهوم الدولة الوطنية، بحيث تكون دولة للجميع، قائمة على توزيع عادل للسلطة والثروة، وتحترم حقوق الإنسان وكرامته في كافة أقاليم البلاد.

لن يتمكن السودان من النهوض إلا من خلال وحدة شعبه، والعمل الجاد لتحقيق سلام عادل وشامل. وقد بدأت ملامح حكومة السلام التي تضم كل أقاليم السودان في الظهور، ومن المتوقع إعلانها قريبًا من الخرطوم. من خلال هذه الحكومة، يمكننا إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس تضمن مشاركة الجميع في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إن إنهاء سياسات الإقصاء والتهميش هو السبيل الوحيد لإعادة بناء السودان على أسس من العدالة والمساواة.

رحم الله شهداء الوطن الذين ضحوا بأرواحهم من أجل حريته وكرامته. نسأل الله أن يحفظ وطننا من المزيد من الفرقة والدمار، وأن يعيده إلى مساره الصحيح، قويًا بوحدته وعدله وسلامه.

أريزونا، الولايات المتحدة الأمريكية
29 يناير 2025

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى