رأي

محمد حمدان يكتب: حرب 15 أبريل زيف المواقف والشعارات.. صراع الدولة وعناصرها

أحدثت الحرب اصطفافات جهوية وعقائدية وطبقية، فقد وقف عتاة اليساريين والمثقفين والصحفيين إلى جانب راديكالي الحركة الإسلامية الأكثر تطرفًا في الدفاع عن امتيازاتهم التي باتت تتلاشى أمام أعينهم. وقد أفرزت هذه الحرب انقسامًا غير مسبوق في تاريخ السودان مما يؤكد أن معظم الاصطفافات السابقة كانت شكلية حول قضايا السلطة وإفرازاتها.

تمثل حرب 15 أبريل ذروة سنام الأزمة الوطنية السودانية التي تعتبر ليست وليدة الحرب فحسب، وإنما تراكم تاريخي لأكثر من مئة عام، ظلت تتفاقم باستمرار خاصة خلال عهود الحكم الوطني حتى أشعلها منسوبو النظام البائد في منتصف أبريل 2023م. لتلقي بتداعياتها على كافة الصعد في السودان ومحيطه.

بحلول اليوم تطوي الحرب عامها الأول، ويومًا تلو آخر تتكشف أعماق الأزمة الوطنية، فهي ذات أبعاد اجتماعية وسياسية ترجع إلى الحكم التركي الذي بذر جذور الإسلام السياسي في التربية الوطنية بدلًا عن التوجهات الصوفية المتسامحة للسودانيين. وترتبط أيضًا بفترة المهدية وما ترتب عليها من صراع ذي أبعاد اجتماعية، وما تلاه خلال فترة الاستعمار البريطاني الذي وضع لبنات الدولة الحديثة ومن ضمنها المؤسسات التعليمية والعسكرية ومعايير الاستيعاب لتلك المؤسسات التي عاقب فيها المكونات الاجتماعية التي ناصرت المهدية بحرمان أبنائها من المدرسة الحربية وكلية البوليس. لتأتي الحكومات الوطنية التي ورثت دولة المستعمر وتمضي في ذات الطريق دون إجراء أي تغيرات محورية تؤسس لعدالة المشاركة في القرار والمستقبل.

تكونت قوة دفاع السودان عام 1925م، وهي نواة الجيش الحالي، وشاركت وحدات منها في الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من أن عقيدتها القتالية تقوم على أساس الدفاع عن الوطن والحفاظ على سيادته ووحدته الوطنية ولديها نظام انضباط عسكري صارم، إلا أنها انصرفت عن تلك المهام لتستولى على الحكم في بضع سنوات بعد إعلان الاستقلال. وقد ظلت تمثل عائقًا أمام الحكم المدني وتطور البلد فقد نفذت حوالي 20 انقلابًا عسكريًا، بل وأدت ثورات أكتوبر 1964 وأبريل 1985 وديسمبر 2019، لتعيد الوضع القديم لما فيه امتيازات لمنسوبيها والفئات المستفيدة منها، وبالطبع قادتها ليسوا أصحاب مصلحة في التغيير لصالح جموع السودانيين.

وخلال عهود الظلام الأخيرة لحكم الحركة الإسلامية تحول الجيش السوداني لكتيبة تأتمر بأمرها، حيث تحولت الكلية الحربية لمعسكر مقفول لمنسوبيها يتم القبول فيه على أسس إيديولوجية وجهوية. علاوة على أنها ظلت طوال تاريخها تكوّن المليشيات لتقاتل بالإنابة عنها السودانيون في الجنوب سابقًا ودارفور وشرق السودان وجبال النوبة، مستقلةً عوامل الجهل والحاجة، وهو وضع مختل ومؤلم. ولذلك فإن هذا الجيش ليس إلا جيش لحماية نظام الحركة الإسلامية وحلفائها حيث يستحوذ على 80 بالمئة من ميزانية الدولة ويضارب في التجارة ويبرم الصفقات وغارق في الامتيازات.

وقد كشفت الحرب الدفاع المستميت عن هذا الجيش الذي يمثل القوة الخشنة للدولة القديمة في مواجهة دعاة التغيير وبناء الدولة على أسس جديدة، بل من المفارقات تحول بعض دعاة التغيير الجذري لهدم الدولة القديمة ومؤسساتها إلى الدفاع عن هذا الجيش والوقوف بجانبه والقتال معه وهذا ما يكشف زيف الإكليشيهات التي يتستر بها البعض خلال السنوات الماضية. وأحدثت الحرب اصطفافات جهوية وعقائدية وطبقية، فقد وقف عتاة اليساريين والمثقفين والصحفيين إلى جانب راديكالي الحركة الإسلامية الأكثر تطرفًا في الدفاع عن امتيازاتهم التي باتت تتلاشى أمام أعينهم. وقد أفرزت هذه الحرب انقسامًا غير مسبوق في تاريخ السودان مما يؤكد أن معظم الاصطفافات السابقة كانت شكلية حول قضايا السلطة وإفرازاتها. ولذلك فإن الحرب الحالية تدور حول الدولة ذاتها وعناصرها الأساسية وهذا ما يكشف بجلاء تخندق البعض وانكفائهم على الجهة والعِرق والمصلحة.

من اللافت للنظر أن الجيش تخلى عن دوره ووظيفته وأصبح دون مواربة يمثل جيش الإسلاميين وحارس لامتيازات طبقية تاريخية وأداة عقاب تجاه المتضررين من سياسات الدولة وعدم حيادها، ولذلك هو يمثل الدولة لمستفيدي الوضع البالي، بينما يمثل أداة قمع للآخرين وهذا اختلاف جوهري ذو ارتباط قوي متعلق بتعريف الدولة ووظائفها وعلاقتها بالمواطنين.

الحرب وسيلة العاجز ورغم ذلك تمثل الحرب الحالية نقطة تحول جوهرية في تاريخ السودان، ففيها تبدلت المواقف وتغيرت الرؤى وفتحت الآفاق واسعة أمام السودانيين لمعالجة قضايا بناء الدولة. وحال استفدنا من تجارب الشعوب وتعلمنا الدرس سنؤسس لبناء وطن حر وديمقراطي وجيش مهني ونظام حكم مرضٍ ومتفق عليه من الجميع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى