عادل الباز

من يسعف الخيل!!

عادل الباز
عادل الباز

(صوت الطائف في آخر الليل) الذي صدر في ثمانينيات القرن الماضي بمصفوفة قصائده الجياد استل فيه الياس فتح الرحمن أرق الشعر من زبد الهرج السياسي والثقافي وعرى قبح الزمن الآثم. قال علي المك في تقديمه للديوان: “لا أريد أن تقع هذه المجموعة الشعرية للياس في مساحة الصمت التي تتسع ببلدنا مثلما الهدام والزحف الصحراوي وهجنة المعاصرة”. ولكن للأسف وقعت تلك المجموعة في مساحة ذاك الصمت ولم تلق عناية النقاد بما تستحقه وبما يستحقه الياس كشاعر كبير.
الصورة واللغة الباهرة الغنية والكثيفة بتصوراتها وخيالاتها هي التي صنعت بهاء خيل القصائد التي انتقاها الشاعر. يكاد يكون الديوان طيفا من الصور تمر على وقائع وأحداث وشخوص ورؤى وأحلام كأنها تعبر محيطا من تأملات عميقة في عتمة الحياة. صور الياس الشعرية تلقاك حية مصاغة ضمن لغة نسيج وحدها. الغموض يلفها حينا وحينا تكشف اللغة عن جوهر معانيها عبر صور تتداعى من مخيلة الشاعر لتصوغ عالما يحتفي بالإنسان والحياة ومتعة الشعر.
تتدفق الصور الشعرية عند الياس كنهر لا سبيل لمعاينته في سيره السرمدي إلا بالارتقاء إلى أعلى ذرى اللغة وأخيلتها. في قصيدته (صورة) التي نقشت على جدران صوت الطائف، يقول الياس:
ظمأ طاعن أورق القول في بهوه
وانتشى
وبسل
… حينها
رفع العاشقون مواعينهم
وارتدى الفعل بردته هائجا
فمشى في عرق الزمان العسل.
صور شعرية تلتقي على ضفاف مدهشة، ظمأ وبهو يورق القول فيه وعشق يسوق الفعل ليمشي عسلا في عرق الزمن.. يا إلهي.. من أين يأتي الياس بهذه الصور الغرائبية البديعة، خيال الشعر يرتاد الثريا. صورة الفعل تمضي لغاياتها فتأمل:
حين ساد الوجل
خلع الفعل بردته ذابلا
وبكى واعتزل.
هنا تلتقي الصورة عند الياس واللغة الباذخة لتشيدا مسرحا دراميا ضاجا بالحياة. صورة يمكن أن تراها وتتخيلها وتكاد تمسك بلحظتها المنفلتة.
شعر الياس لا يعرف اليأس ولا التهويم في فضاءات المجهول، إنما يسعى كائنا ذا قيمة إبداعية ورسالية لا تنفك تستنهض النائمين في بلاط الشعر للمهمة الكبرى التي ينتدب لها الشعراء الكبار أنفسهم.
يقول الشاعر في لقاء له منشور بالرأي العام: “قصيدتي هي الطريق الذي أعرفه لمكافحة كذب التاريخ من أجل الوصول إلى الإنسان الأجمل والأكثر حساسية”. عندما يكون صوت الطائف بالليل محاولة لإيقاظ النائمين وانتشالهم من عبثية أفعالهم وأشعارهم يصبح الإصغاء لصوت المغني الشاعر ممكنا لا بل واجبا ممتعا..
لم يجعل الياس فتح الرحمن من غربته حائطا للبكاء على الوطن، بل حول منفاه لخيمة. “أقاوم كي لا أكون – مقتلعا – .. بأن أجعل من طبيعة المنفى طبيعة إيجابية فهو الخيمة وليس السجن”.
يكاد شعر الياس عبر كل قصائده يخلو من تشكي شعراء المهاجر ليبقى في خضم الفعل اليومي لوطنه وأهله. فالقصائد تتنوع في سياق واحد مندمج بهموم لا تغادره أو بحثا عن إجابات قلقة لأسئلة حيرى.
في معرض حرصه على استتباب أمن الشعراء بعيدا عن أسئلة العيش يقول الياس: “مازلنا معجونين للأسف في سؤال العيش وسؤال البقاء، ولنتأمل، إن العادي والطبيعي في بلادنا يدخل في خانة الحلم والمعجزة”.
من المعاني البسيطة والقيم الكبرى (بين الحلم والمعجزة) يستمد الياس طاقته الشعرية فتراه يتسلق جذوع النخل (بطواف النزوع).
حسبتك في لحظة العاصفة
تظلين يا نخلتي واقفة
علام تنادينني
عتابي ينمو على
وجه أوردتي النازفة.
ثم يعبر لفضاء أصدقائه أو ينغرس بأوحال السياسة ليسبر غور كثير من المواقف اليومية والكوارث التي حاقت بالوطن. ثم يتجاوز ذلك كله ليندغم في قضايا أمته كما فعل في قصيدته (ثلاثون) المهداة لصديقيه بلند الحيدري وسعدي يوسف، التي تعبر تعبيرا كاملا عن تلك الروح التي تصعد بالفعل الشعري خارج أطر جغرافيته المحدودة ليصبح نشيدا عالميا ذا معنى ودلالة.
شكراً لمركز عبد الكريم ميرغني الذي أعاد نشر قصائد الديوان ضمن مجموعة شعرية أطلق عليها اسم (لا أحد يسعف الخيل)، يا ترى كيف طوى النسيان هذا الديوان الذي يمثل ذاكرة شعرية تاريخية بديعة؟. الياس أسعفنا بشعره، ولكنه ليس مسؤولا عن إسعاف خيول النقد!!.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى