ثقافة

نهار بطعم الحبر الصيني

صباح سنهوري

كاتبة سودانية*

أشعرُ بحكَّةٍ طفيفة بالموضع الذي ينمو لي به قرنان على جانبي رأسي، هما صغيران الآن لذا يتسبَّبان لي بحكَّةٍ مزعجةٍ للغاية، أُباعد بين شعري كي أتلمَّس قرني الأيمن، هيا أيها الشعر السخيف، تحرَّك قليلاً بعد، هكذا… قليلاً… آه… لمسته… أوه… أشعر بلذَّة كبيرة وكأنَّ أحدهم يقوم بلمسي هناك بيدٍ باردة، القرن الصغير، ملمسه غريب، كالعظم أو الخشب… بل كصَدَف البحر أظنُّه، أين القرن الآخر؟، صنعتُ من إصبَعَي السبَّابة والوسطى رجلاً يبدو كموظف في مصلحة حكومية، يمضي الموظف يشُقُّ طريقه بين الشعر متذمراً من كلّ شيء… أحسستُ بالضجر منه أبدلته بإصبعي السبابة والإبهام، انزلقتُ بهما على فروة رأسي كلاعب دفاع متمرس، أوه… اصطدمتُ به: بالقرن الصغير، يا لجماله، أطوف حوله صاعدة قمته، أوه الرعشة… اللذة، أغمضتُ عينيّ، ملتُ بعنقي إلى الوراء وأنا أتأوه، الأيمن… الأيسر، الأيسر… الأيمن، آه .. آممم .. أوه، فتحتُ عينيّ لآخرهما، خفتُ أن يكون هناك – أو هنا أحد يراقبني من مكانٍ ما، قمتُ بتعديل شعري الكثيف وحرصتُ على دفن القرنين الصغيرين تحته، أدفعُ هواءً من رئتي – أو أياً يكن، كأنني مصابة بزكام ، أنفي مغلق ، أدفعُ هواء مرة أخرى.. أنفي مغلق. أنا أكره الشِعر والشعراء، لا أزال أحلم نهاراً بذلك الشاعر التافه، أحلم بي أقضم أنامله واحداً تلو الآخر، أُغمسها بكوب ممتلئ بالحبر الصيني وأبلّل كل إصبع إلى النصف فقط ، اسحبها بهدوء، وأُمرَّر حافتها المبللة بحافة الكوب كي أتجنب قطرات الحبر الزائدة ، أقضمها الأولى بِلَذَّة ، الثانية ، الثالثة ، الرابعة ، الخامسة ، وأتركُ اليد اليُمنى لليوم اللاحق، أرجعُ بجسدي للوراء قليلاً إلى أن يبرز بطني للأمام؛ فأُربِّتُ عليه بيديّ في حركة درامية، لا أشعرُ بالراحة في هذه الوضعية، أنفي المغلق يتسبب لي بالضيق الشديد فينتهي حلمي النهاري.

أودُّ الكتابةَ عن رَجُلٍ: آخِر ما يذكره هو خطواته على الطريق المؤدِّي للحانة، فيجد نفسه بغرفةٍ لا يتبيَّن محتواها، في أحضان فتاة لا يعرف جنسيتها، تتحدّث بلغةٍ غريبةٍ لا يفهمها هو، الفتاة تُردِّد جُملةً واحدة: “إمبوخالو… إمبوخار ماس دُوراو”، لا يفقه ما تقوله، رُبَّما تشتمه هو، أو أبيه، أو هو وأبيه، ربّما .. أيّ شيء، ولكن لا يدري لماذا بدت له الجُملة مثيرة حقاً، الأكثر إثارة على الإطلاق، “إمبوخالو… إمبوخار ماس دُوراو” جسده يرتعش، يتصبّب عرقاً، الفتاة: “إمبوخالو”، يعجز هو عن التنفس، الفتاة غاضبة: “إمبوخار ماس دُوراو” .

أنا أكره الشِعر، الشعراء، أنفي المغلق والحكة التي تباغتني بسبب القرنين الصغيرين اللذين بجانب رأسي، أُعدِّلُ من شعري الكثيف، أحرص على دفنهما جيداً تحت تل من الشَّعْر وليس الشِعر، أنا أكره الشعر والشعراء… أدلف الى حلم نهاري آخر وأنا غاضبة جداً، أغرز نكَّاشة أسنان حادة بعينِ الشاعر اليُسرى، أفقأها، أسحبها للخارج، أُغرقها بكوبٍ ممتلئ بالخلِّ، ينتقل بصري بصورةٍ بطيئة إلى كوب الحبر الصيني، أحسُّ أنني تسرَّعتُ باختيارِ كوب الخل، أنقلُ بصري مرة أخرى إلى كوبِ الخل وعينُ الشاعرِ بقاعه؛ تنظر لي، أنقلُ بصري إلى الحبر الصيني وأنتبه إلى أنه ليس ممتلئاً كما تركته بالأمس، فأنظرُ إلى أنامل يدِ الشاعر اليُمنى فلا أجدها.

أُعدِّلُ من شعري لأخفي القرنين اللذين ينبتان بجانبي رأسي، أرتدي ملابس قديمة وأخرج مُقررة الذهاب إلى معرضِ فنٍ تشكيلي، في اللوحة: كل ما أراه هو وجه طفل بجسدٍ عارٍ لامرأة ممتلئة الأرداف مترهلة بعض الشيء! أحاول جاهدة أن أرى شيئاً غير وجه الطفل الذي له جسد امرأة ممتلئة الأرداف عارية ومترهِّلة بعض الشيء.. أحاول، ممممممم… ربما اللوحة تُمثِّل قطعة من فستانٍ نسائي؛ وهذا الطفل والأرداف إنما بمثابة كُمٍ لهذا الفستان -تعلوني علامات الارتياح قليلاً… ولكنّني سراً لا أصدِّق ذلك! … إذ من يُخطئ طفلاً بجسدٍ عارٍ لامرأةٍ ممتلئة الردفين مترهلة!؟؟ آه… تباً للفن… وللديمقراطية.

أُحدِّقُ بعينِ الشاعر وهي تُبادلني التحديق من داخلِ كوبِ الخل، لا أشعر بالارتياح إزاء هذا الكمِّ من الـ … لستُ أدري، أمدُّ يدي، أمُسكُ نكَّاشة الأسنان بهدوء، قد ابتلَّت هي الأخرى بالخل، أسحبُ ببطء العين.. عين الشاعر التي أضحت الآن تُحدِّقُ بالنكَّاشةِ بدلاً عنِّي، لا أخاف من قطراتِ الخلِّ المتساقطة على ثيابي القديمة، أفتحُ فمي، أضعُ عين الشاعر وقطرات الخل تتساقط منها، أُغلِقُ فمي وأسحبُ النكَّاشةَ إلى الخارج بسرعة تكفي لتشهق العين بالداخل… ممممممم، لها طعمٌ غريب، يشابه شيئاً ما… كمشروب التبلدي بالصمغ العربي.

عندما علمتُ أنّ فتاة أعرفهولرهبته.ت نفسها في محاولة أخيرة للموت؛ حاولتُ أن أختبر كيف كان شعورها، لقد غضضتُ النظر عن الاحتمالية الرخيصة تلك بأنها قد حاولت بتر الفكرة في اللحظة التي لا تجدي، إنها لم تقم بذلك. حسنا؟ .. أتخيلها تتردد فقط عندما بدأ الماء يلامس قدميها: لبرودته، ولرهبته .. ولكن ذلك حتماً لم ينسها لمَ هيَ هنا.. بالقرب من النهر. أتخيلها: تُدخل قدميها المتخشبتين واللتين لم يستطع كل ماء النهر ترطيبهما، تجرُّهما .. الهواء لاسع، بارد، يحمل أصوات كل من عرفتهم منذ طفولتها… النهر لا يريدها أن تقترب، يبصق أمواجاً متسارعة.. الهواء يهمس بأذنها بأن لا تعير النهر اهتماماً، فتقترب. الماء يتسلُّق جسدها بشهوة، يلعق ركبتيها، يمدُّ يده تحت ثوبها.. فتشهق وتتوقف عن المضي قدماً، الهواء يهمس: “اذهبي” .. فتذهب.

النهر يحاول جاهداً كبت شهوته -لم ُيعلِّمه أحد كيف يقوم بذلك، كيف يعقد لجامه عندما ترغب به صبية، إنها ترغب به.. لن يلومه شيء إذاً، يمدّ يده تحت الثوب متلمساً جسدها راغباً بكلِّها.. الهواء يدغدغ أذنها بلسانه ويهمس:

 “اذهبي”

النهر: يتأوه

هي: صامتة

الهواء: “اذهبي”

النهر: يتأوه…

هي: صامتة

الهواء: “اذهبي” ..

النهر: يتأوه

هي: ساكنة

الهواء : …

النهر: …

هي: …

الهواء: …

أسحبُ كوبين خاليين، أضعهما على الطاولة التي أمامي، أملأهما بالخل والحبر الصيني معاً، أُباعدُ بين الكوبين، أنقعُ أناملي بالكوبين، سأتركهما لدقائق، أسمعُ صوت تلفاز، أتبيُّنُ صوت إعلان لحبرٍ صيني، سحبتُ أناملي من الكوبين ببطء، الخل والحبر الصيني يسيلان على يديّ إلى مرفقيّ فأحسُّ بهما على صدري.. أبدأ بقضمِ أناملي واحداً تلو الآخر وأنا أستمع إلى صوت أحوال الطقس في التلفاز، تأتيني الحكّة المزعجة مرّة أخرى…تباً.

مُستلقيةٌ على السرير ولا أستطيع النوم، أفتحُ عينيّ فإذا بالشاعرِ أمامي يجلس على كرسيّ، تباً.. أنا أكره الشِعر والشُعراء، لم لا أضعه بحلمٍ نهاري الآن، أحسُّه على وشك قول شيء “ترهات بالتأكيد” الشاعر: عندما يأتيك الحزن كـغوريلّا بنفسجيَّة ينبغي أن تعتبر نفسك محظوظاً، ينبغي أن تُقدِّم لها ما تبقَّى من عشائِك، والكتاب الذي تُحاول إنهاءه ينبغي عليك أن تضعه جانباً وتفسح لها مكاناً لتجلس على سريرك. أنا: عندما يأتيك الحزن كـغوريلّا بنفسجية ينبغي أن تسحب ببطء القضيب الصناعي الذي تُخبئه بجانب السرير وتغرزه في مؤخِّرتها البنفسجية الكبيرة.

الشاعر: …

أنا: …

الشاعر: تضعُ إحدى يديها البنفسجيتين الثقيلتين حولي، تسندُ رأسها برأسي، وفجأة.. تبدو الأشياء رومانتيكية! فـأقول لها: “الأشياء تبدو رومانتيكية” .

– أنا: …

– الشاعر يَخرُج دون أن يُغلِق الباب خلفه.

– أنا أستلقي على السرير، أتكوَّر، أغمض عينيّ وأحلم بغوريلّا بنفسجية تدسُّ كتاباً تحت وسادتي.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: شارك الخبر، لا تنسخ