رأي

أحمد الشريف: أحلام كبيرة قدرات صغيرة..

أحمد الشريف (أمادو)

الجيل الرابع من “الكيزان” الذي يتخبط الآن متاهات السياسة السودانية، جدير حقًا وصدقًا بصفة الجيل الرابع وفق نظرية الإمام عبدالرحمن بن خلدون عن أجيال الجاه الأربعة.
وذلك أن ابن خلدون، الذي عاش ومات قبل عصر الحزب السياسي، حدد عمر الدولة/الجاه/الشوكة بأربعة أجيال. ذهب شراحه مذاهب متعددة في تفسير الجيل ومدته. والأجيال الأربعة هي؛ الجيل الباني، وهو حسب ابن خلدون “بان للمجد عالم بما عاناه في بنائه، ومحافظ على الخلال التي هي أسباب كونه وبقائه. وبلغة الحرب الحالية هذا هو جيل” القنقر” الذي يسمو إلى ذرى المجد بعلو الهمة، فيخلقه من العدم المحض. ثم يليه الجيل المباشر لبناة المجد المجتهد من بعدهم، الذي يباشر الأقيال المؤسسين ويتلقى منهم التعاليم “إلا أنه مقصر في ذلك تقصير السامع بالشئ عن المُعاين له” ثم يأتي ثالث الأجيال وهو المقلد المقتفي الذي “يقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد” ولنرجئ ذكر الجيل الرابع قليلًا.
وتصلح نظرية الأجيال الأربعة الخلدونية لتفسير ظواهر القوة الاجتماعية المختلفة غير “الدولة” التي حصر الفقيه المالكي الأندلسي العلامة نظريته فيها. فتفسر أجيال الثروة، وأجيال الجاه الاجتماعي، وتفسر ظاهرة مستحدثة مثل صعود الأحزاب السياسية.
وعندما نقرأ تاريخ التيار الإسلامي بالسودان نجد أن جيل الشيخ حسن الترابي هو الجيل الباني، الذي وطد دعائم الوافد الجديد في بيئة سياسية واجتماعية غاية في الصعوبة. وأشرف على تربية الجيل المجتهد في أوساط الطلاب والمتدينين وبلغ بهم ذروة القوة منتصف الثمانينات، حتى حازوا السلطة في اواخرها، وسخرو طاقات جيلهم الثالث المقلد في تثبيت دعائم السلطة، فحكموا أكثر من نصف عمر الدولة بعد الاستعمار. واستطاعوا أثناء ولايتهم الطويلة رفع مستوى حياة السودانيين رفعًا جليًا، ثم عجز جيلهم الرابع عن الحفاظ على ما ورثه، ولم يحافظ على مستوى الحياة المتحقق، ناهيك عن اشباع التطلعات الكبرى التي تلت ارتفاع مستوى الحياة، فكانت ثورة ديسمبر.
وقبل ثورة ديسمبر، كان الزعيم التاريخي الترابي، يتحدث عن شئ أسماه “المنظومة الخالفة” وثمة ملاحظة طريفة هنا، وهو أن الجيل الرابع يمكن تسميته أيضًا الخالف أو المخالف لنهج آبائه، نهج الإبداع، ثم الاجتهاد ثم التقليد، و ذلك أن. الجيل الذي ينشأ مرحبا في العز والشوكة يظن أن ما يتنعم به قد حصل بلا “معاناة ولا تكلف، وإنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم وليس بعصابة أول خلال” وكأنه يقصد ما يشار إليه في ثقافة هذه الأيام بإحساس الاستحقاق.
هذا الجيل الرابع المنعم المدلل، عاش حياة رخية سهلة بفضل انتسابه للتيار الإسلامي، درس تخصصات أكبر من مؤهلاته، وعمل في مناصب مدنية وعسكرية وأمنية أكبر من قدراته. لم يعاني رعشات وهذيان الملاريا الخبيثة في خنادق الجنوب، مثل جيل المقلدين جيل علي عبدالفتاح، ولا عايش المعارك السياسية الكبرى بعد المصالحة الوطنية وأثناء الديمقراطية الثالثة مثل جيل المجتهدين، جيل محمد الحسن الأمين، ولا آمال وآلام جيل البنائين أواخر الخمسينات مرورا بثورة أكتوبر. ولكن لانه الجيل الرابع المدلل، يعتقد أنه يستحق كل فضائل أسلافه، فهو عبقري واسع الحيلة مثل الترابي، ومبدع تنظيميا وسياسيا مثل جيل المجتهدين، وشجاع وملتزم مثل جيل المقلدين الذي روى أرض الجنوب بالدم والعرق وسهر على حراسة السلطة. هكذا يرى كيزان هذه الأيام أنفسهم؛ لأنهم جيل الحياة الرخية. ولأنهم يفكرون كالأطفال المدللين لا يرون في ديسمبر وسقوط دولتهم، الان، سوى مؤامرة داخلية وخارجية، ولأنهم مدللون لا يزعجون أنفسهم بالسؤال البديهي: ولكن لماذا نجحت المؤامرة هذه المرة؟ وهل بنا أسلافهم الحزب ثم استلموا السلطة وبقوا على قمتها لأن الخيال البشري لم يكن اخترع الخيانة والمؤامرات في زمانهم البعيد السعيد؟
في أول الأمر عقب الثورة، لم يتحسر المدللون طويلًا على ذهاب السلطة؛ فهم يرون أنهم في ماهم فيه من امتياز لأنهم يستحقون ولأن هذه طبيعة الأشياء، ولن تتغير طبيعة الأشياء لمجرد “تغيير سياسي” فلزم بعضهم الصمت الحذر، وتعهد بعضهم بمعارضة لطيفة إيجابية، ودعا بعضهم إلى مراجعات عميقة، بينما شارك غير قليل منهم في الثورة نفسها، وفي دعم حمدوك وحكومته الأولى، إلا أن استيقظوا فجأة على لجنة التمكين تنتهش “حقوقهم الطبيعية” وتضرب أوتاد الدنيا كما يعرفونها. فندموا وبدأ طقس التكفير عن الذنب.
سيطر على الجيل الرابع إحساس الذنب والتقصير، حتى صار ذلك محرك سلوكهم وتفكيرهم، وثمرته المبالغة في التبرؤ من الثورة وشيطنتها، والمبالغة في الهجوم على الفاعلين فيها، ورسم صورة مثالية لعهد ما قبل الثورة وشخوصه. ثم ابتدأت حركة “إصلاح الخطأ” واستعادة الفردوس المفقود.
في ولاية غرب كردفان حدثت أول التحركات الجادة ضد حكومة ما بعد الثورة، وكان أول تجمع سياسي علني لأنصار النظام القديم. وهو أمر له دلالته. فهؤلاء المتحركين، ومنطقة الحراك تلك، هي الأقل تمتعا بنعيم الإنقاذ الآفل، والأكثر تعطشًا للسلطة وما تعنيه من امتياز! بتعبير اخر، تحرك فقراء التيار الإسلامي ذوي التطلعات السلطوية الأعلى، وليس غريبا أن يتحول قادة حراك غرب كردفان وجماهيرهم لاحقًا إلى أشرس المؤيدين بل والمقاتلين في صفوف الدعم السريع، وقد وجدت تطلعاتهم إطارًا تعبر فيه عن نفسها أفصح وأنجع من الإطار القديم. على سبيل المثال، كان القيادي بالدعم السريع حاليا “علي دخرو” من أنشط كوادر الاسلاميين في تلك المرحلة.
وتغيرت خطة الاستعداد كثيرًا، حتى بلغت مرحلة تعريف السريع، بماهو العائق الوحيد أمام استعادة الأمجاد الغاربة، وتكامل هذا التعريف مع بلوغ الندم على الثورة ذراه الأعلى، فبدأ يسود بين مدللي الجيل الرابع، تصور، لا أصل له، أن الدعم السريع ما كان له أن يتحول إلى مشكلة لولا الثورة اللعينة! مع أن ديسمبر في الحقيقة كانت وبالًا على الدعم السريع أكثر من غيره، والرابح الأكبر منها هو الجيش لا سواه. وقد أشهر حميدتي أصبعه الطويل في وجه الجيش مهددًا متوعدًا مستهزئًا قبل سنوات خمس من ديسمبر. وكان الجيش عاجزًا تمام العجز عن الاستجابة للتهديد الوشيك لوجود البشير، الذي حسم أمره في الأيام الأخيرة لصالح تضخيم الدعم السريع وتمكينه بحيث يكون قادرا على اخضاع الجيش نفسه، حال فكر التنظيم الإسلامي في استخدامه ضده. والسنة التي هدد فيها حميدتي الجيش أول مرة، هي نفسها السنة التي حاول منشقون من الحزب الحاكم اطاحة البشير باستخدام الجيش وجهاز الأمن، بقيادة صلاح قوش.
والجيل الرابع لا يفيد تعريفًا وصفه بالتيار الإسلامي، لانه ليس حزبًا ولا تيارًا وليس إسلاميًا بأي معنى يمكن أن يحتمله لفظ إسلامي، الجيل الرابع هو ظاهرة اجتماعية! تشمل أخلاطًا متنافرة من البشر، لا يجمع بينهم حاليًا سوى الرغبة في التطهر من خطيئة سقوط الإنقاذ، والطمع في استعادة الامتيازات المفقودة والمهددة. فهم حلفاء جنرالات من أوقح الموالين للكيان اليه–ودي، لا يمانعون التطب-يع بل والتعاون الأمني مع الكيان العدو، لكنهم يمانعون التفاوض مع غرمائهم المدنيين والعسكريين. وهم يحاربون الان تحت رايات طالما وصفها اسلافهم بالطاغوتية، مثل الدولة، السيادة الوطنية، بل لا يمانعون تطعيم هذه الطاغوتية بدعاوى الجاهلية العرقية والجهوية. ولا يضمهم أي كيان تنظيمي ذو قيادة وأهداف وعقل مركزي، وحتى وحداتهم المقاتلة لا ينظم شتاتها أي خيط تنظيمي. بعضهم كان السجان الجلاد لبعضهم، بينهم تاريخ عريق من القتال والسباب والهجاء، بله التفسيق والتكفير، ليس عندهم كبير محترم ينتظمون حوله – انتقلت إليهم المشكلة التاريخية الحزب الاتحادي – لديهم أقطاب ومراكز جذب وكاريزمات صغيرة، إن أطيعت في المكره فلن تطاع في المنشط، وإن أطيعت اليوم لن تطاع غدا، ولا رأي لمن لا طاعة له. قليل منهم إسلامي على طريقة سيد قطب، وبعضهم إسلامي على طريقة أردوغان، وأكثرهم إسلامي على طريقة المؤتمر الوطني دينه عبادة السلطة. وأخلاط متشاكلة من الرؤى والمذاهب لا تستمد وحدتها الهلامية إلا من مصدر خارجي، وقد وجدوا هذا المصدر الخارجي في قحت/تقدم التي يتعرفون على أنفسهم في الغلو في معاداتها وتخطئتها، وفي ما تجود به عليهم من تضخيم وتهويل لخطرهم. المركز الوحيد المنظم من مراكز ظاهرة الاسلاميين والقادر بالتالي على التأثير هو جهاز الأمن، أو ما تبقى منه بعد تدجين الجيش له عقب ديسمبر، وعضوية المؤتمر الوطني حول الجهاز.
ورغم كل هذا الضعف يصدق كثير من أبرياء الجيل الرابع انهم قادرون على منازلة الجيش، الذي صرع أباهم الترابي نفسه ثم من هم دونه، وعلى مناجزة القوى الإقليمية والدولية، ثم السيطرة على الرأي العام السوداني السريع التقلب، وابعاد كل التهديدات والمنافسين المحليين ثم العودة الظافرة وكأن ديسمبر لم تكن! لا أحد من الأجيال السابقة من الإسلاميين يمكن أن يفكر بمثل هذا التهور والاستسهال الرغائبي المجاني، وكأنه حلم مسطول! اللهم إلا جيل خلدوني رابع يظن امتيازه ظاهرة طبيعية. ولتقارن رؤية غندور مثلا مع الرؤى العمياء لحالمي الجيل الرابع!
ترى كم من الوقت سيمر قبل أن يواجه الصبية الحالمون لحظة الحقيقة؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى