لم يكن القصر الجمهوري يومًا بيتًا للكرامة الوطنية أو رمزًا حقيقيًا للسيادة، بل ظلّ عبر الحقب مركزًا لإنتاج العنف المنظم، ومحرابًا لتكريس القهر والإقصاء، منذ أن اتخذه غردون حصنًا للهيمنة الاستعمارية، وحتى ورثه طغاة الداخل الذين حافظوا على وظيفته دون تغيير يُذكر سوى في الوجوه.
من داخل القصر، أُديرت أعقد ملفات الحرب والتمزيق الوطني: من إشعال فتيل الحرب في جنوب السودان، إلى التخطيط لمجازر دارفور، إلى قصف النيل الأزرق، وحصار جبال النوبة، وتهميش شرق السودان. ظل القصر يمثل بنية الدولة القهرية التي لم تُبنَ يومًا على عقد اجتماعي عادل، بل على امتيازات نخبوية وتفويض سلطوي يتجدد عبر الدم.
ومع اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، بدا القصر في نظر البعض رمزًا استراتيجيًا، لكن حقيقته كانت قد انهارت قبل ذلك بسنوات، حين فرّت منه السلطة الفاشية إلى بورتسودان، تاركة وراءها مبنى مفرغًا من كل قيمة سياسية، محطمًا، مشوّهًا، كأثرٍ باهت لدولة تتفكك من داخلها. لم يكن القصر سوى قشرة خاوية سقطت قبل أن تُستولى، ومجرد واجهة لسلطة لم تعد تملك حتى رمزية الصمود.
في المقابل، كانت معارك الصحراء تصوغ المعنى الحقيقي للصراع. هناك، بعيدًا عن أضواء الإعلام وعدسات الدعاية، كانت ملحمة المالحة تتبلور، وتُعيد تعريف البطولة، لا كاستعراض عسكري، بل كفعل تحرري حقيقي. بالسيطرة على جبل عيسى شرق المالحة، تم إسقاط آخر معاقل البوابيين، وسُجّل نصر معنوي واستراتيجي كبير، ليس فقط على مستوى الميدان، بل على مستوى إعادة تشكيل الوعي الجمعي السوداني حول مفهوم النضال، والسيادة، والعدالة.
إن المالحة وأخواتها لم تكن مجرد مناطق ساخنة، بل كانت مسارح حقيقية لتاريخ جديد يُكتب. هناك، بزغ وعي بديل، غير ملوّث بتوازنات النخب ولا مخرجات الموائد الإقليمية. هناك، خيضت معارك بلا دعم دولي، بلا ضمانات، لكن بإيمان جارف بقضية شعب يسعى لحريته، ويطمح لبناء دولة تستوعب الجميع على أسس المساواة والكرامة والعدالة.
الحرب في السودان لم تكن خيارًا رخيصًا أو نزوة سلطوية. إنها نتاج تراكمي لعقود من التهميش البنيوي والهيمنة الفوقية. وكل من يتعامل مع الحرب كصراع مؤقت على السلطة دون النظر إلى أسبابها العميقة، يُفرغها من جوهرها ويُمهّد لتكرارها. هذه الحرب، رغم قسوتها، قد تكون الفرصة الأخيرة لبناء واقع جديد، مختلف كليًا عن كل ما عرفناه في الماضي، واقع يتجاوز السلام الشكلي والاتفاقات المنقوصة، إلى عدالة تحولية حقيقية.
نحن لا نقاتل لأجل القصور، بل من أجل الإنسان. لا نطلب النصر العسكري المجرد، بل ننتصر حين يولد مشروع الدولة العادلة، الفدرالية، العلمانية، التي تحتضن الجميع دون استثناء أو استعلاء. سقوط القصر ليس نهاية الحرب، بل فصل من فصولها. والحرب لم تنته بعد، لكننا فيها الرابحون الحقيقيون… لأننا لم نخن دماء الشهداء، ولم نساوم على المبادئ، ولم نساير مسارات التسوية المزيّفة.
لقد تحرر جبل عيسى، وستتحرر البلاد…
لكن الأهم: أننا تحررنا من وهم الدولة القديمة، ونحمل اليوم مشروعًا يُعيد بناء السودان من جذوره.