حين كتب مارك ماثباني مذكراته “كافير بوي” (Kaffir Boy)، لم يكن مجرد شاهد على الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، بل كان صوتًا صارخًا يروي مأساة طفل وُلد محاصرًا بين الفقر والجوع والاضطهاد، في عالمٍ لا يعترف بإنسانيته. كان الصراع في قصته أكثر من مجرد قوانين جائرة؛ كان نظامًا متكاملًا صُمم لخنق أحلامه قبل أن تولد، وتحويله إلى تابع لا يملك سوى الطاعة أو الموت.

تمامًا كما كان مارك ماثباني ضحية لمنظومة أرادت له أن يكون عبدًا في بلده، كان عثمان إلياس (عثمان الدمازين) ضحية نظام لم يُرد له سوى الموت أو الإذلال، لمجرد أنه وُلِد في المكان الخطأ، في الزمن الخطأ، وسط معركةٍ لم يختر أن يكون جزءًا منها.
في “كافير بوي”، كانت أحياء السود في جنوب أفريقيا مقابر للأحياء، حيث الجوع لغة يومية، والخوف ظلٌ لا يفارق العيون. أما في دلنج السودان، فقد تحولت المدينة إلى مسرحٍ مفتوح للموت، حيث لم يكن الانتماء إلى الجيش جريمة، بل كان سببًا كافيًا لتُعلق الجثث على الأشجار وأعمدة الكهرباء، في مشهدٍ يُعيد تكرار دروس العنصرية بأدوات جديدة.
تمامًا كما جاب الأب في “كافير بوي” الطرقات بحثًا عن خلاصٍ لابنه، كان عثمان الدمازين يجوب قرى السودان بحثًا عن ابنه المفقود، يتنقل بين ارتكازات الدعم السريع، بين نقاط الجيش، بين الوجوه القاسية التي لا تعرف الرحمة. لكنه لم يجد سوى الصمت والخذلان… والموت الذي كان يقترب منه خطوة بعد أخرى.
وحين ظن أنه قد بلغ نهايته، ظهرت كتائب البراء بن مالك في ولاية الجزيرة، وأحاطت برجلٍ منهك، في العقد السادس من عمره، جسدٌ هزيل وقلبٌ ثقيل بحمل السنين، لكنهم لم يروا فيه إلا مرتزقًا ليبيًا، أو مجرد غنيمة جديدة لعدالةٍ كُتبت بمقاييس المنتصرين.
كما كان بطل “كافير بوي” يصرخ في وجه النظام، محاولًا النجاة من قفص وُضع فيه دون جريرة، كان عثمان الدمازين يُركل ويُهان أمام الكاميرات، رجلٌ جردوه من كرامته كما جُرد السود في جنوب أفريقيا من حقوقهم.
لكن هنا، في السودان، لم يُترك له حتى حق رواية قصته. في “كافير بوي”، كتب مارك ماثباني قصته بيده، لكنه في السودان، كان على عثمان أن يموت بصمت، أن يختفي تحت أقدام القتلة، أن يُلقى في النيل كما أُلقي غيره، دون شاهد ولا دليل.
لم تكن قصة عثمان حكاية عابرة، إنما نموذج مثالي آخر عن الظلم، كانت إعادة إنتاج لنفس المأساة، حيث تتحول السلطة إلى سلاح، والهوية إلى لعنة، والانتماء إلى سببٍ كافٍ للموت.
لكن الفارق أن مارك ماثباني عاش ليكتب عن معاناته، أما عثمان الدمازين، فكان عليه أن يموت كي تُروى حكايته، ليس بقلمه، بل بدمه الذي سال في شوارع السودان، في وطن لم يمنحه شيئًا سوى الألم.
أبكي أيها الوطن المحبوب، فقصص المظلومين لا تموت، حتى لو ابتلعهم النسيان.