أخبار

(الدخاخين) .. سمادير عبد الله المتشيخ بين قوسي الوطن والمنفى

عبد الله رزق

abusimazeh@yahoo.com

(1)

” ربي يحسدني على اسمي .. يناديني:
– عبد الله السوداني.
– نعم.
– لما ترجع لبلادك نَبُّوك تِتْمَشْيَخْ على السودانة، لكن تَوَّا هِنِيْ نَبُّوكْ تَخْدمْ.
– بَاهي، بَاهي.”
(الدخاخين : ص 138)

(2)

بافتراض موته، الثيمة الأكثر شعبية في النقد الأدبي، افتراض غرق المؤلف الحتمي في المتوسط، أثناء محاولة فاشلة للتسلل من ليبيا إلى أوروبا، لاستكمال حلقة هروبه الأخيرة من دولة الإخوان في السودان، ما الذي يجعل من (الدخاخين) رواية، عمادها الخيال والتخييل، وليست شتيتاً من الذكريات أو حزمة من التداعيات، كـ (تداعيات) يحيى فضل الله أو محض سمادير…؟!
أين ينتهي الواقعي في تجربة عبد الله الشيخ، ككاتب صحفي وروائي، لأن يفعل ما يفعل الضائعون، (وهم يهربون إلى صحراء الأمل)، ليعمل فراناً، وأين يبتدئ المتخيل، الرواية، كتعبير جمالي عن مغامرته الخاصة والصغيرة، تجربته في الخلاص الفردي، في تحولها إلى وعي كبير وعام، كما يقول أندريه مالرو..؟! أين يقع الخط الوهمي الفاصل في (الدخاخين) بين الـ ( Fiction والـNon-fiction؟!) بين الراوي والمؤلف؟! بين عبد الله الشيخ وعبد الله الشيخ الآخر وعبد الله السوداني المُتَمَشْيِخ؟!
…. من الممكن النظر إلى الرواية ككناية عن تلك المغامرة، كمفردة في تراجيديا الهروب الأفريقي المترامي الأطراف، إلى أوروبا، والتي لا تنتهي إلا بـمشهد (خفر السواحل في الشاطئ الآخر, وهم ينتشلون من أفواه السمك جثث آلاف الأفارقة الهاربين عبر ليبيا). أين من بطل الدخاخين ذلك المصير؟!

(3)

في حوار مع صديقه، ابن عمه:
– بعد وصولي القاهرة الله في.
– لا أظن أن الله موجود في القاهرة.
عندما قالها هكذا، لم يكن ملحداً، بل كان مشفقاً. (ص 9).

(4)

ككاتب صحفي، -وربما كشاعر مستتر- يبرز عبد الله الشيخ، عناية ملحوظة باللغة، على مستوى المفردات المنتقاة، والتركيب الشعري، للعبارة وتوهجها، حيث تعكس تناقضات الواقع وصراعاته. اللغة المتوترة، الشاعرية، الموغلة في المجاز، وهي تعرج بالعادي إلى ما فوق العادي، والمألوف إلى اللامألوف، كأبسط تعريفات الشعر.
” تحت ذلك التّبَس ترقد ألغام الاتفاقيات التي مُهرت في سوانح السِلْم. لا محفلَ في الطريق إلا محطات السّفر. المهاربُ تمتلئ وتفرغُ والكفاح الثوري مُستمر, وها هو القائِد قد أنجزَ وعدَه وطاردَ شعبَه وواجه النّاتو وحده! وقفتُ عند مرفأ النّظرية. لا زادَ لي ولا مال. سأستبدلُ عند هذا الحد لساني وأقولُ ما تقول المفاتيح: الله غالِبْ.
النساء اللائي تسكّعن في ذاكرتي عند (باب اللوق) تبخّرنَ كما تبخرَ النَّشامى بين دواعش دولة الخِلافة. الشاطئ مُتْرَعٌ مثل ليل الخندَريس وأُنثى الجماهيرية كظل في العتمة. كان لي وطنٌ لكن الشيخ أبى. ضاع الشبابُ بيدَ أني بقيتُ على قيد الحياة.” (ص 20)

(5)

شاعرية عبد الله الشيخ، تتبدى كأجلى ما تكون في المنولوجات المتناثرة داخل النص، والتي تتضامن مع تقنيات الديالوغ والقص، في بينان الرواية وتماسكها.
” هذا الليلُ حزين, وأنا غريب وغُصة فراق القاهرة لم تفارق حلقي. القاهرة مدينة طاعمة مثل قندول عيش. القاهرة كما الدنيا، تدخلها باكياً وتفارقها بالعويل.
هذا قطار حلفا يحتشد بالمسافرين. أُنثى خلاسية ذات عكش يُرفرِفُ ثوبها بين الجراجير.. نساءٌ أعجميات في هيئة (داعش) يتقرفصنَ كالمستحيل في مقاعد الدرجة الثالثة. في حجورهن وِلْدان وصَبَايا. في هذا الطريق ينتظرني غبارٌ وغربةٌ ودنيا من الرُطانة.
أيُ بلاد الله تؤويكَ وأنتَ بمثل هذا الجُرح؟!”. (ص 26).

(6)

تلعب اللغة دوراً بارزاً في بناء عالم (الدخاخين)، من الدهشة ومن التشويق، ومن المتناقضات، اللغة المتوترة، الجمل القصيرة. التي تخلو-غالباً- من الروابط ومن حروف العطف، القاموس العامي المنتقى بعناية من الدارجية المصرية والسودانية والليبية، المفردات المبتكرة، التي يتم تخليقها من مفردات عادية. الجمل المنزاحة من سياقاتها المألوفة. مثلما يلجأ الكاتب إلى الكتابة بلغة عامية، جنباً إلى جنب مع عربية فصيحة صقيلة:
” تبدأ الوردية دغشاً بدري، وتنتهي ظهراً، والجيب تقيل. (السَّنْجَكْ) -قلع الأبرول أو ما قلعو- الساعة تلاتة كَكْ تَلْقَاهو في بيت البُقانة. يدخُل وما يمرُق إلا أنصاص اللّيَالي. يصل البيت حَالِج، فيشعر الجيران بمجيئه، لأنَّه كلما دبّ في الليل، لابد أن يَدُق الكَفْ: (النفوس الطيبة ما كانت شريرة، أنا والله طَارِيكْ يا أُم دَرَق، وطاري العشيرة)”. (ص 107)

(7)

في أول ظهور لمفردة (دخاخين) في الرواية، في طبعتها الثالثة، التي صدرت عن دار الراوي 2020، كان في سياق يستبطن معنى يحيل إلى الرؤية الغبشاء، إلى السمادير: “…. وأنا بين دخاخين تغبش كل سانحة عشق راودتني”. (ص 37).
لا تدور الرواية حول حدث مركزي واحد، تتطور نحوه حركة السرد إلى ذروة معلومة. استرجاع استدعاء من الذاكرة. تردد متوتر بين الوطن والمنفى.
ففي (الدخاخين) تتتابع المشاهد بغير انتظام، في تنقلها من مكان إلى آخر، وبغير إيقاع سوى ترددات الذكريات المستعادة، بين قوسي الوطن والمنفى.
الراوي البطل، عبد الله المتشيخ، هو الشخصية المحورية، ومع ذلك هناك عم عبده البواب في القاهرة، وعِتْمان رئيس اللجنة الشعبية في تَنْقَسِي، وخالد الشهاوي من شخصيات القاهرة، الطاهي المولع بالخمر وبالنساء، وعمك جبرين، وهو فكي متخصص في جلب النساء، تسهيل إجراءات المغادرين، الهاربين من صحراء الأمل، بجانب رب العمل. ويضفي سيد أحمد السنجك، أحد ضحايا الخصخصة، لذلك ظل مداوماً على نقد الحزب الحاكم، خلال تردده الدائم على انداية بت محبوبة، في كمبو المحالج، ومحمد الحسن، ود حسن، تاجر الخضار، أحد أنصار الشريف حسين الهندي، “المناضل الذي قويت شوكته بالكدح والمطاردة والتعذيب في المعتقلات”، والذي هو امتداد، بشكل أو آخر للسنجك، أو أحد أقنعة المؤلف، حيث دأب على الحضور المستدام في انداية الزينة، في كمبو المحالج، في نهاية يوم عمله في سوق الخضار، ليشهد مناخاً سياسياً، بالتعليق اليومي على الأحداث. غير أن الرواية لم تهتم بمتابعة مصائرهم حتى النهاية، بما في ذلك مصير المؤلف – الراوي، نفسه. لا تتعلق (الدخاخين) بقصة حب، إذ ليس في الرواية بطولات نسائية، من أي نوع، ومع ذلك، فثمة العديد من النساء الغامضات، العاريات من الملامح، (النساء العابرات للحزن)، اللائي يتسللن بين السطور، بلا أسماء.
تدور أحداث الرواية في أكثر من مكان: سِرْت، الزاوية، القاهرة، كَمْبُو المحالج، تَنْقَسِي ….
ربما تتعلق الرواية أكثر بالحنين، (الحنين للبلد)، وتجلياته متعددة الصور، الحنين كتعبير عن صراع داخلي مع الغربة، وهواجسها. ثمة إلحاح على هذا الإحساس الذي يحرك الوقائع اليومية للرواية، وترددات الذاكرة بين المنفى والوطن.
” الحنين الذي في الجوف يسوقني إلى بلدي”. (ص 12)
” الحنين الذي في الجوف، قادني إلى مسقط رأسي. حزن دفيق دفع بي إلى حلة تنقسي”. (ص 116)
(الدخاخين)، هي توترات الرحيل، بين الوطن والمنفى، “ما معناه أن الضائعين يهربون إلى صحراء الأمل عبر منفذ السلوم”. (ص 8)
لكنهم، لا يفتؤون يعودون على أجنحة الحنين. “هي، أيضاً، بعض هواجس الغريب”. في البعيد، حيث يبحث “عن قوت يومه زنقة .. زنقة”. حيث يشتاق “إلى احتضان أي حاجة فيها ريحة البلد”. (ص 50)
وحيث “يحترق بنيران الفرن والكلام المقيت”. (ص 54)
حيث يداهمه مع الهواجس، طيفها الذي لا ينام، طيفها الجدير باقتران (الحبيبة – الوطن”:
” طيفها لا ينام. طيفها يغدرني، يداهمني في الهزيع، بأمنيات العودة إلى وطن، لفظ أحبته، وآوى سارقيه”. (ص 37)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: شارك الخبر، لا تنسخ