رأي

السودان: نظرة في تعثر بناء الدولة ..١..

د. النور حمد
مقدمة

إذا جاز لنا أن نعرِّف “الربيع العربي” بأنه حراكٌ جماهيريٌّ سلميٌّ من أجل التخلص من الأنظمة الدكتاتورية العسكرية، أو الأنظمة الديكتاتورية المدنية، التي انبثقت عن أنظمةٍ عسكرية، وأن هذا الحراك يهدف بشكلٍ رئيسٍ إلى إقامة أنظمة ديمقراطية تعددية حقيقية، وإقامة دولٍ يسود فيها حكم القانون، وتتحقق فيها العدالة الاجتماعية، فإن بإمكاننا القول، وفقًا لهذا التعريف، إن “ربيع السودان” قد استمر لعقود! ظلت مساعي الشعب السوداني المتصلة من أجل تحقيق حالة حكم أفضل، تتعرض للإجهاض بصورٍ متتابعة، منذ الاستقلال عن الحكم البريطاني في يناير 1956 وحتى وقتنا الراهن. أكمل الحراك الشعبي الهادف للتغيير في السودان، ممثلاً في أنشطة القوى الحزبية، والحركة النقابية المطلبية، وفي حراك المجتمع المدني، حتى الآن، قرابة الستين عامًا. شمل هذا الحراك المستمر من أجل تحقيق نظامٍ ديمقراطيٍّ حقيقيٍّ، وعدالة اجتماعية شاملة، جميع فترات الحكم الوطني؛ التي حكمت فيها أنظمةٌ عسكرية، والتي حكمت فيها أنظمةٌ ديمقراطية. ولأسباب عدة، سيرد ذكرها لاحقًا، ظل فشل أنظمة الحكم الديمقراطي يستدعي الانقلابات العسكرية بصورةٍ متكررة.
ساد حكم العسكريين في السودان، الغالبية العظمى من مجمل سنوات حقبة ما بعد الاستقلال. فمن بين ثمانيةٍ وخمسين عامًا، هي عمر استقلال السودان، حكم العسكريون سبعةً وأربعين عامًا، بينما حكمت الأنظمة الديمقراطية الحزبية أحد عشر عامًا فقط، تمثّلت في ثلاث فترات قصيرة. وبسبب التركيبة الطائفية للقوى الحزبية السودانية، افتقد السودان الممارسة الديمقراطية الرشيدة، في كل فترات الحكم الديمقراطي القصيرة التي اتفقت له. فقد ظلت الأحزاب الطائفية تعتدي على النهج الديمقراطي، وتقترب، في بعض المنعطفات، من خلق ما يمكن أن يوصف بأنه ديكتاتورية مدنية. أصابت أساليب الأحزاب الطائفية التقليدية في الحكم، ونفورها من المثقفين، الطبقة الوسطى المدينية، وطبقة الانتلجنسيا التي لا تدين لها بالولاء، باليأس والقنوط من امكانية تحقيق نظام ديمقراطي، وأسلوب حكمٍ يسمح بالنمو وبناء الدولة الحديثة. شجّعت ريبة القوى الحديثة تجاه النظام الديمقراطي الذي تسيطر عليه القوى الطائفية، العسكريين وحفزتهم على الاعتداء على الديمقراطية ثلاث مرات، كما سلفت الإشارة. ومن الناحية العملية، فقد ظلت القوى الحديثة المتمثلة في المهنيين والعاملين في الخدمة المدنية وفي قطاعات العمال في مواقع الانتاج الحديثة ترحب بالانقلابات العسكرية، كلما ضاقت بمسلك الأحزاب الطائفية. حدث ذلك الترحيب الشعبي الواسع لدى انقلاب الفريق عبود عام 1958، وحدث بقدر أكبر لدى انقلاب العقيد جعفر نميري عام 1969.
ما يميز الحراك الاجتماعي في التجربة السودانية الطويلة القاصدة نحو التغيير، مقارنةً بغيرها من التجارب العربية، أنها تخللتها ثورتان شعبيتان سلميتان، (ثورة أكتوبر 1964) و(ثورة أبريل 1985)، نجحتا في إزاحة نظامين عسكريين. ومع ذلك، لم يأت ربيع السودان الطويل أُكله بعد! بل على العكس من ذلك تمامًا، فالأمر لم يقف عند مجرد الاجهاضات المتكررة لحراك التغيير وإفشال مساعيه لتحقيق مقاصده، وإنما تعدى ذلك إلى حدوث حالةٍ من التراجع المطّرد، شملت سائر جوانب الحياة السودانية فكريًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيا. فعبر هذه المسيرة المستمرة من التراجع المطرد، كانت الحكومات المتعاقبة، خاصة العسكرية، تتغول على المساحة التي يشغلها العمل النقابي المستقل ومنظمات المجتمع المدني. فانكمشت مساحة العمل النقابي والنشاط الأهلي، والقدرة على الرقابة الفاعلة، التي جرى تكسيرها بمختلف الطرق. انتهجت القوى الحاكمة باستمرار نهج اختراق العمل المطلبي، فأضعفت فاعليته. حتى ليمكن القول إن السلطة الحاكمة قد أصبحت، في الحالة التي تمثلها سلطة الإنقاذ الحالية، هي الكل في الكل. فالحكومة في دولة ما بعد الاستقلال في السودان ظلت تسير باستمرار في وجهة أن تصبح هي المشرِّع، والمنفِّذ، والقاضي، والحكومة والمعارضة في آنٍ معًا، وقد وصل كل ذلك، في اللحظة الراهنة، إلى نهاياته القصوى.
مارس السودان مع بداية استقلاله من الحكم البريطاني المصري في عام 1956، نظامًا ديمقراطيًا برلمانيًا قائمًا ـــــ من الناحية الشكلية على الأقل ـــــــ على تعدديةٍ حزبيةٍ، وحريةٍ للتنظيم والتعبير، وانتخاباتٍ حرة. غير أن أول ديمقراطية فيه 1956 -1958، تم وأدها بعد عامين فقط من الاستقلال بانقلاب الفريق إبراهيم عبود الذي تجمع الروايات أن رئيس وزراء السودان آنذاك، السيد، عبد الله خليل، المنتمي لحزب الأمة، هو الذي أوعز للعسكر بأن يتقدموا ليستلموا منه السلطة. ويُعزى تسليمه السلطة للعسكريين إلى التنسيق بين خصميه التقليديين؛ الحزب الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي لإسقاط حكومته، تحت رعايةٍ مصرية 1. ويبدو أن عبد الله خليل كان يخشى أن يضع ذلك التنسيق بين المصريين وبين الحزبين الاتحاديين، السودان مرة أخرى تحت السيطرة المصرية، بعد أن أعلن استقلاله عن كلٍّ من بريطانيا ومصر قبل عامين فقط من ذلك التاريخ. أيضًا، شهدت تلك الفترة حالة اضطرابٍ شديدة، كانت أكبر، في ما يبدو، مما يمكن أن تحتمله دولةٌ وليدة. فقد نشب نزاعٌ بين الحكومة الوطنية الوليدة من جهة والجبهة المعادية للاستعمار واتحاد نقابات العمال الذين قدموا مطالب بعضها يتعلق بتحسين أوضاع العاملين وبعضها الآخر سياسي، فتجاهلتها الحكومة ما أدى إلى إضراب 42 نقابة، مثلت في مجموعها 98% من مجموع القوى العاملة في البلاد 2. مهد ذلك الجو المضطرب للعسكريين لكي يقبلوا عرض السيد عبد الله خليل رئيس الوزراء المنتخب ديمقراطيًا، باستلام السلطة ووأد الديمقراطية الوليدة.
ظل مشروع البناء الوطني لدولة ما بعد الاستقلال في السودان متعثرًا، وظل خطه العام يسير من سيّءٍ إلى أسوأ. فبعد خمسةٍ وخمسين عامًا من الاستقلال، عجزت النخب السودانية العربية الإسلامية الممسكة بمفاصل السلطة والثروة في السودان، في إقامة دولة المواطنة، وفي الاعتراف بالتنوع، فانفصل جنوب السودان في يوليو 2011، بعد حربٍ ضروسٍ طويلةٍ عطّلت النمو لدى الطرفين لنصف قرنٍ تقريبًا. بانفصال الجنوب فقد السودان ثلث أراضيه، وما يصل إلى ثلثي ثرواته الطبيعية 3. أيضًا، بسبب الانقلابات العسكرية وطبيعتها القمعية، واستهدافها المستمر للحراك الاجتماعي المتمثل في نشاط القوى العاملة، واستهدافها الأكاديميين والمثقفين الناقدين، فقد السودان خير ما أنتجه نظامه التعليمي من عقول. بدأت هجرة السودانيين إلى خارج البلاد، في حجمها وصورتها الملحمية mass exodus، في منتصف فترة حكم الرئيس نميري بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية. وفي العقدين الماضيين الأخيرين التي حكم فيها الاسلاميون، هاجر من السودان مئات الآلاف بسبب تواصل تدهور الدخل من الوظائف، وتدهور الخدمات، وارتفاع تكاليف المعيشة بالقدر الذي أصبح به الراتب الحكومي الشهري لا يغطي لأكثر من 5% من الحاجة الشهرية للأسرة. خرجت من السودان زبدة العقول التي انتجها نظامه التعليمي؛ من علماء ومهنيين وكتاب ومفكرين وفنانين. ولم تكن دوافع تلك الهجرة اقتصاديةً كلها، إذ هاجر كثيرون بسبب الاعتقالات السياسية المتكررة، والتعذيب، والمتابعات الأمنية، وسياسة تكميم الأفواه، وحرمان الأفراد ذوي الطاقة والكفاءة من أن يكونوا فاعلين في مجتمعهم.
أما هجرة عامة السودانيين، خاصةً فئة الشباب، التي بدأت منذ منتصف السبعينات، فقد تزايدت، هي الأخرى، في العقدين والنصف الأخيرين اللتين حكم فيهما الإسلاميون، فبلغ عدد المهاجرين الملايين. وشملت هجرتهم، إضافة إلى الدول العربية النفطية، كلاً من أوروبا وأستراليا وأمريكا الشمالية. ورد في تقرير لوزارة العمل السودانية صدر مؤخرًا، أن عدد المهاجرين إلى خارج السودان قد بلغ في العام (2012 – 2013) وحده، 75.631 مهاجرا 4. هذا مع ملاحظة أن تقارير وزارة العمل السودانية لا تعطي في العادة أرقامًا حقيقية، إما بسبب الغرض المتمثل في حرص الحكومة على تغطية الاخفاقات، أو بسبب عدم دقة الإحصاءات ذاتها. فكثيرٌ من المهاجرين لا يهاجرون عبر المنافذ الرسمية، وإنما يتسربون عبر حدود السودان مع الدول المجاورة، وهي حدود يشترك فيها السودان مع ست دول، (كانت تسعًا قبل انفصال الجنوب). خلاصة القول، إن أنظمة الحكم المتعاقبة في السودان قد فشلت عبر ستين عامًا في مهام البناء الوطني، بل أصبحت الدولة نفسها، في مهب الريح. فبسبب القلاقل والاضطرابات والحروب الداخلية والانهيار الاقتصادي، وتدمير المؤسسات، وتفشي الفساد، وانعدام المحاسبية، وانفراط عقد الأمن، أصبح السودان مهددا بمزيد من التفتيت، كما أصبح مصنفًا من قبل المنظمات الدولية في عداد الدول الفاشلة. احتل السودان المركز الرابع لأكثر الدول فساداً في العالم لعام 2013، بعد الصومال وأفغانستان وكوريا الشمالية، محرزًا 11 درجة من 100 درجة، بحسب مؤشر منظمة الشفافية الدولية المنشور في 3 ديسمبر 2013 5. كما احتل المركز الثالث للدول الفاشلة في العالم لنفس العام. ولم تأت بعد السودان في درجة الفشل سوى دولتين، هما جمهورية الصومال، وجمهورية الكونغو الديمقراطية 6. وهكذا يمكن تلخيص تجربة الحكم الوطني في السودان، لمرحلة ما بعد الاستعمار، في أنها تجربة اتسمت في جملتها بالتراجع المطرد، بل والفشل.

..يتواصل..
…………………………………………..
1 في مخطوطة منشورة الكترونيا بـ : “موقع الفكرة الجمهورية”، كتب الأستاذ محمود محمد طه: “كانت الحكومة ائتلافية بين حزب الأمة، وحزب الشعب – حزبـي الطائفتين ذواتي الخصومة التقليدية، طائفة الأنصار، وطائفة الختمية. ودخلت البلاد في أزمة سياسية من جراء عدم الانسجام في الوزارة، وبروز الاتجاه للالتقاء بين الحزب الوطني الاتحادي، الذي كان في المعارضة، وحزب الشعب، عن طريق وساطة مصر. فسافر رئيسا الحزبين، السيد إسماعيل الأزهري، والسيد على عبد الرحمن، إلى مصر، لهذا الغرض. ولقد نسب لرئيس الوطني الاتحادي تصريح ، بمصر، يعترف فيه باتفاقية 1929، التي كانت حكومة السودان الشرعية قــد ألغتها..‏ (وهي الاتفاقية التي أُبرمت في الماضي بين دولتي الحكم الثنائي، بريطانيا، ومصر، بينما كان السودان غائبا، تحت الاستعمار، فأعطت السودان نصيبا مجحفا من مياه النيل، بالنسبة لنصيب مصر‏. وكان ذلك الاعتراف بالاتفاقية بمثابة مساومة مع مصر لتعين الحزب على العودة للحكم‏.‏ كما صرح رئيس حزب الشعب، بمصر، بأن حزبه يقف في المعارضة!! ( صحيفة أنباء السودان 15/11/1958، صحيفة الرأي العام 9/11/1958)‏. في هــذا الجو السيـاسي الذي يهدد استقـلال البلاد، وسيادتـها، بالتدخـل الأجنبي، سلم السيد عبد الله خليل رئيس الـوزراء، الحكــم للجيش‏.‏‏. (أقوال الفريق عبود في التحقيق الجنائي حـول الانقــلاب بعد ثورة أكتوبر 1964، إبراهيم محمد حاج، التجـربة الديمقراطية، وتطور الحكم في السودان). اضغط هنا  استرجاع في 28 يناير 2014.
2 محمد سعيد القدال، معالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، دار الفارابي، بيروت، لبنان، 1999، ص 97.
3 أكدت وزيرة الدولة بوزارة البيئة والغابات فدوى شواي دينق أن السودان سيفقد بعد انفصال الجنوب ثلثي الغابات وأن مساحتها سوف تتقلص إلى 11%. صحيفة الصحافة، الخرطوم، 13 يونيو-2011 ، العدد 6432. كما فقد السودان بعد انفصال الجنوب أكثر من ثلثي انتاجه النفطي كما أعلنت الحكومة.
4 هجرة الكوادر السودانية: الأسباب والتداعيات، صحيفة الإنتباهة السودانية، الخرطوم، 2 كانون الثاني/يناير 2013.
5 راجع التقرير الوارد في موقع منظمة الشفافية الدولية 3 ديسمبر 2013، تحت عنوان: CORRUPTION PERCEPTIONS INDEX 
. (استرجاع في 8 يناير 2014).13

6 راجع مجلة فورين بوليسي (استرجاع في 8 يناير 2014)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: شارك الخبر، لا تنسخ