“لن يستطيع أحدٌ أن يركبَ على ظهرِك، ما لم تكن منحنياً”
مارتن لوثر كينج
د. النور حمد
عبء الرجلين الأبيض والمصري
العقلية الاستحواذية الجانحة للهيمنة الكاملة التي سبق أن أشرت إليها، هي السمة الجوهرية للنخب الحاكمة في مصرفي التعاطي مع الملف السوداني. وهو بالنسبة لها ملفٌ أمنيٌّ أولاً وأخيرًا. وهذا هو ما أخرج العلاقة المصرية بالسودان من دائرة الفهم المُتَّزن والثقة والتعامل عبر الطرق الدبلوماسية وتقوية المصالح المشتركة إلى دائرة محاولة هندسة الأمور في داخل السودان استخبارتيًا لصالح مصر. وكما سبق أن ذكرت سابقًا أيضًا، فإن القوى الاستعمارية الأوروبية خلفت وراءها نخبًا وطنيةً في كل البلدان التي خرجت منها قواتها في نهاية الحقبة الاستعمارية، ليتواصل الاستعمار عبر ما سُميَّ “الاستعمار الجديد”، أو قل الاستعمار من بعد بواسطة الوكلاء المحليين، وهو ما فعلته مصر، أيضا. لكن، في حالة مصر مع السودان، كان هناك عنصرٌ إضافيٌّ آخر، أكثر خطرًا، وهو الاستعمار الثقافي الذي تحتل به القوة الاستعمارية عقل الشعب الذي جرى استعماره، أو على الأقل، احتلال عقول الكثيرين من مواطنيه، خاصةً نخبه السياسية والثقافية والتجارية والمجتمعية. وهو ما ينتج عنه خضوعٌ مُركَّبٌ، وشعورٌ بالدونية، يجعل تحقيق التبعية السياسية الاختيارية ميسورا.
بعد أن أخذت أوروبا تجني ثمار الثورة الصناعية، وبعد أن انفردت بحيازة السلاح الناري بصورةٍ نوعيةٍ متفوقةٍ، وبعد أن تعاظمت لديها الحاجة لمختلف المواد الخام مما ليس متوفرًا في بيئتها، ونشأت لديها الحاجة إلى الأسواق الخارجية، شرعت أوروبا في التفكير باحتلال البلدان. غير أن ذلك الجشع الاستعماري جرت تغطيته بأن من واجب أوروبا الإنساني والأخلاقي أن تغزو البلدان غير الصناعية بهدف إخراجها من التخلف وسوقها في طريق التقدم والتمدين. وظهرت في نهاية القرن التاسع عشر، مع بداية الهجمة الاستعمارية، قصيدة شاعر الإمبراطورية البريطانية الأشهر، روديارد كيبلِنج التي حملت عنوان: “White Man’s Burden”، أي عبء الرجل الأبيض في نقل الحضارة إلى أجزاء العالم المتخلفة اقتصاديًا وتكنولوجيا. وسرعان ما أصبحت قصيدة كيبلِبنغ منبع إلهامٍ للإمبريالية الأمريكية حين كانت منخرطةً في حروبها في الفلبين وجزر المحيط الهادي. وهكذا أصبح استعمار الآخرين ونهب ثروات بلدانهم، وطمس ثقافاتهم بالثقافة الوافدة، وإخضاعهم لحكم القوى الاستعمارية، بقوة السلاح، مهمةً نبيلةً تجري تحت زعم إدخال الآخرين في سلك الحضارة، عبر احتلال بلدانهم وإدارتها بالنيابة عنهم لمصلحة المستعمِر.
أما في شمال وادي النيل فقد رأت مصر الخديوية نفسها قوةً متقدمةً حضاريًا مقارنةً بجنوبها. وذهبت، من ثم، تبرر استعمارها للسودان المأهول بأهل البشرة السوداء، المنفصلين نسبيًا آنذاك عن مراكز الحضارة الحديثة، بغرض إدخالهم في سلك الحضارة، حسب زعمها، رغم أن غرضها كان المال والرجال. وقد سبقت مصر باستعمارها السودان في عام 1821، الهجمة الاستعمارية الأوروبية على أفريقيا بخمسين عامًا، كما سبق أن ذكرنا. وبما أن هذه المقالات لا تسمح بالتوسع في كشف هذا الجانب، فإنني أكتفي بإيراد بعض النماذج القليلة من الأدبيات المصرية، لإثبات زعمي هذا. ففي مستهل كتابه المسمى، “مديرية خط الاستواء، من فتحها إلى ضياعها”، كتب الأمير عمر طوسون، حفيد محمد علي باشا، عن التوسع الخديوي المصري جنوبًا في وادي النيل، قائلاً: “لا ريب أن الفكرة التي اختلجت في نفس الخديو إسماعيل والتي دفعته إلى فتح مديرية خط الاستواء وضمها إلى السودان، أو بالأحرى إلى الأملاك المصرية، فكرة جد صائبة إذ بها تم لمصر الاستيلاء على نهر النيل من منبعه إلى مصبه. وأصبحت في قبضتها تلك البحيرات العظمى التي يخرج منها هذا النهر السعيد الذي عليه مدار حياة البلاد”. (راجع: عمر طوسون، تاريخ مديرية خط الإستواء المصرية، الإسكندرية: مطبعة العدل (1937)، ص 3). (الخط تحت الجملة أعلاه من وضعي).
السودان ملكٌ مصريٌّ خالص
منذ غزو محمد علي باشا للسودان في عام 1821، أصبح السودان لدى مصر الخديوية “أملاكًا مصرية”. ومن نماذج اليقين الراسخ بأن السودان في الذهن المصري “ملكٌ مصريٌّ” خالصٌ، ما كتبه عبد الرحمن الرافعي، وهو يحتفي بتصريحٍ مخاتلٍ أطلقه اللورد سالسبري، في فترة من فترات شراكة إنجلترا ومصر في استعمار السودان. قال الرافعي: لقد صرح اللورد سالسبري بأن وادي النيل كان ولا يزال ملكًا ثابتًا لمصر، وإن حجج الحكومة المصرية في ملكية مجرى النيل، وإن أخفاها نجاح المهدي، إلا أنها ليست محلاً للنزاع، منذ انتصار الجنود المصرية على الدراويش. وقد كتب الدكتور نسيم مقار في مستهل كتابه “مصر وبناء السودان الحديث”، ما نصه: “يرى الباحث في تاريخ مصر على مر العصور والأزمان أن مصر حين تقوى وتنهض وتنال قسطًا متميزًا من التقدم، تسعى إلى أن تنقل حضارتها إلى البلاد الأخرى المجاورة، التي لم تُحظ بما حُظيت به من تقدم حضاري”. (راجع: عبد الرحمن الرافعي، مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ج ع م، (1962) ، ص 132).
أما المورخ المصري، محمد فؤاد شكري فيقول: “تضافرت عوامل عدة على أن تسيِّر مصر حملةً على السودان، لإدخاله في نطاق ذلك “النظام السياسي الذي أوجده محمد علي، وفرغ من وضع قواعده خصوصًا بين عامي 1807 و1811، على أساس الحكومة المستبدة المستنيرة في الداخل، والتوسع صوب الشرق والجنوب في الخارج”. (راجع: محمد فؤاد شكري، مصر والسودان: تاريخ وحدة وادي النيل السياسية في القرن التاسع عشر 1820 -1899، القاهرة: طبعة مطبعة دار الكتب، (2011)، ص 7). ومحمد فؤاد شكري ممن كتبوا أكثر من كتابٍ عن السودان من المنظور المصري. ومن بين مؤلفاته “مصر والسودان: تاريخ وحدة وادي النيل السياسية 1820–1899”. فهو يسمي الاستعمار الخديوي القسري للسودان الذي حدث في عام 1821، واستمر إلى عام 1885، “وحدة وادي النيل”! بل ويضيف إلى ذلك سنوات الحكم المهدوي الذي طرد الاستعمار الخديوي من السودان في عام 1885، واستمر لمدة 14 عامًا، عادًا فترة حكم المهدويين جزءًا مما أسماه وحدة وادي النيل.
أيضًا كتب المؤرخ المصري رأفت غنيمي الشيخ، صاحب كتاب “مصر والسودان في العلاقات الدولية”، نقلاً عن محمد فؤاد شكري، إن محمد علي باشا استند على أمورٍ ثلاثةٍ في فتح السودان، أولها: رسالة مصر في السودان التي لا يمكن التخلي عنها إطلاقا، وهي: الاحتفاظ بشطر الوادي الجنوبي حتى يتسنى لمصر إتمام رسالتها من حيث واجب النهوض بالسودان إلى مصاف الأمم المتمدينة الرشيدة. ويذهب محمد فؤاد شكري إلى تبرير عبء الرجل المصري في تمدين السودانيين بصورة أكثر غرابة حين يقول: إن محمد علي باشا قد استند في غزوه للسودان على ما يُعرف باسم “نظرية الخلو”، أو الملك المباح”، Res Nullius. وحجة شكري في احتلال محمد علي للسودان هي أن الأقطار السودانية عند ضمها إلى مصر لم يكن أحد يمتلكها في الحقيقة، لأن السلطة هناك كانت مغتصبةً من أصحابها الشرعيين، كما أن قبائل العربان، وفقًا لزعمه، قد نشرت الفوضى في السودان. ويواصل شكري قائلا: فإذا استطاع حاكمٌ أن ينتزع هذه الأراضي السودانية من قبضة أولئك الذين اغتصبوا كل سلطةٍ بها، وأن يُنشئ حكومةً مرهوبة الجانب، تذود عن حياضها وتصون السودان من الغزو الأجنبي، وتكفل لأهله الاستقرار والعيش في هدوء وسلام، فقد صار واجبًا أن يستمتع هذا الحاكم بكل ما يخوله له سلطانه أو سلطته من حقوق السيادة على هذه الأراضي الخالية، وهذا الملك المباح أصلا. ونسمع اليوم نفس هذه النبرة من الحكومة المصرية وهي تحشر أنفها (بقوة عين عجيبة)، في شؤون السودان.
لم تقف هذه التسبيبات المصرية الخديوية الاستعمارية الاستحواذية الواهية عند حد احتلال أراضي السودان، وإنما تعدته لاحتلال قسم وادي النيل الجنوابي الواقع في منطقة البحيرات العظمى جنوب غوندكرو. فقد أصدر الخديو إسماعيل فرمانًا حين شرعت مصر الخديوية في احتلال المديرية الإستوائية جنوب مدينة غندكرو، في العام 1869م، جاء فيه: “نحن إسماعيل خديو مصر، قد أمرنا بما هو آتٍ: نظرًا للحالة الهمجية السائدة بين القبائل القاطنة في حوض نهر النيل، ونظرًا لأن النواحي المذكورة ليس بها حكومة، ولا قوانين ولا أمن، ولأن الشرائع السماوية تفرض منع النخاسة والقضاء على القائمين بها المنتشرين في تلك النواحي، ولأن تأسيس تجارة شرعية في النواحي المشار إليها يعتبر خطوة واسعة في سبيل نشر المدنية ويفتح طريق الاتصال بالبحيرات الكبرى الواقعة في خط الاستواء بواسطة المراكب التجارية ويساعد على إقامة حكومة ثابتة، أمرنا بما هو آت: تؤلف حملة لإخضاع النواحي الواقعة جنوب غوندكرو لسلطتنا”. (عمر طوسون، مصدر سابق، ص 13).
الشعور بالاستحقاق المطلق
يتضح جليًّا مما أوردناه من نماذج كتابات المؤرخين المصريين البارزين، أن لدى الإدارات المصرية وأكاديمييها البارزين شعورٌ طاغ وراسخٌ بالاستحقاق المطلق لاحتلال أراضي الغير ونهب ثرواتهم. والتذرع في ذلك التعدي الاستعماري بحجج واهية، بل ومضحكة، كقولهم إن تمدين المناطق غير المتمدنة من مسؤوليتهم. أو قولهم، إن تلك المناطق بلا حكومات، وأنها غارقة في الفوضى، ولابد من غزوها للقضاء على تلك الفوضى، أو لمحاربة تجارة الرقيق. هذا في حين أن حملة محمد علي باشا التي احتلت السودان في عام 1821، قد كان أحد غرضيها الأساسيين اصطياد الرقيق وجلبهم من السودان إلى مصر للعمل سُخرةً في جيش محمد علي باشا. ويؤكد هذا التوجه المؤرخ العراقي ممتاز العارف حين قال: إن الخطة الخديوية لاحتلال السودان وقف وراءها هدفان وهما، أولا: الحصول على أكبر كمية من الذهب، وثانيا: جمع أربعين ألفا من العبيد وإرسالهم إلى القاهرة. (راجع: ممتاز العارف، الأحباش بين مأرب وأكسوم: لمحات تاريخية من العلاقات العربية الحبشية ونشوء دولة إثيوبيا الحديثة، صيدا: منشورات المكتبة العصرية، (1975)، ص 103). فما بين عام 1821 وهو عام بداية الاحتلال الخديوي امصري للسودان، وعام 1839، بلغت أعداد الرقيق الذين أرسلوا إلى مصر 200 ألف. وعمومًا كان الاحتلال المصري الخديوي للسودان مهمةً لحمتها وسداها الاسترقاق والنهب. ويروي المستكشف البريطاني، صمويل بيكر، الذي زار الخرطوم في العام 1862م، أي بعد أربعين عاماً من بداية الاحتلال المصري الخديوي للسودان، أن الذي رآه في الخرطوم كان عملية نهبٍ بشعةٍ لم يعرف التاريخ لها مثيلاً، اشترك فيها كل موظفٍ في الدولة من الحاكم العام إلى أصغر خفير. ويضيف بيكر أن الجنود الذين تتكون منهم حامية الخرطوم كانوا يعيشون في البلاد كجيشٍ محتل، وقد انعدمت في قلوبهم الرحمة. كان كل ما يهمهم هو جمع الضرائب والتي كانت تُجبى بإلهاب ظهور الناس بالسياط. وسكان الخرطوم البالغ عددهم آنذاك ثلاثين الفًا لم يكن في وسع أي واحدٍ منهم أن يقضي غرضا دون أن يستعين بالرشوة، وكان الجلد والتعذيب شيئاً عاديا. (راجع: محمد إبراهيم ابو سليم، تاريخ الخرطوم، بيروت، دار الجيل، (1999)، ص 62).
هذه الذهنية المصرية التي ترى أن أراضي السودان وموارده المائية والزراعية والحيوانية والغابية والمعدنية حقًّا حصريًا للمصريين، لا يستحق منه السودانيون شيئًا، أمرٌ تؤكد شواهد كثيرة للغاية، وبصورةٍ صارخة. وقد عبَّرت هذه الشواهد عن نفسها بجلاءٍ عبر تاريخ هذه العلاقة المصرية السودانية المستشكلة الملتبسة، التي استمرت على مدى زاد حتى الآن على قرنين من الزمان. واللافت، كما سبقت الإشارة، أن هذه النظرة الخديوية الاستحواذية التي تأسست على استنزاف موارد السودان لم تتغير، حتى بعد نهاية الحقبة الخديوية. وإنما استمرت في عهود كل الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم مصر، منذ أن جرى تقويض النظام الملكي على يدي الجيش بقيادة محمد نجيب وجمال عبد الناصر، في عام 1952، وحتى يومنا هذا. بل، إن ما حاق بالسودان من نهب للموراد في فترة ما بعد ثورة ديسمبر 2018، قد فاق في حجمه وغرابته كل نهبٍ جرى في الماضي من جانب مصر لموارد السودان. لقد وقف النظام المصري ضد ثورة ديسمبر ووضع كل ثقله وراء الفريق عبد الفتاح البرهان مانحًا له كل الدعم لكي يمارس ألاعيبه الفجة المكشوفة ويوظف نزعته الدموية من أجل الانفراد بالسلطة، ليصبح السودان وموارده تحت يد مصر.
(يتواصل)
على طريقِ الانعتاقِ من الهيمنةِ المصرية (4 – 20)
“لن يستطيع أحدٌ أن يركبَ على ظهرِك، ما لم تكن منحنياً”
مارتن لوثر كينج
د. النور حمد
شهادات ضد صلاح سالم
أود في هذه الحلقة من سلسلة المقالات هذه أن انتقل مما كان يجري من جانب مصر تجاه السودان في القرن التاسع عشر، إلى ما أخذت تعمل له عند منتصف القرن العشرين، حين أعلن البريطانيون نيتهم الخروج من السودان. لحظتها، انفتحت شهية الدولة المصرية لابتلاع السودان، وأخذت تعمل بدأبٍ شديدٍ على جر النخب السياسية السودانية لاختيار الاتحاد معها عقب خروج البريطانيين. ومن نماذج الأساليب التي اتبعتها مصر للهيمنة على السودان قبيل الاستقلال، ما أورده الدكتور منصور خالد نقلاً عن مذكرات عبد اللطيف البغدادي. فقد ذكر الدكتور الراحل، منصور منصور خالد أن البغدادي استمع إلى شهادة بعض المصريين العاملين في السودان، فيما يخص دخول أموال مصرية للتأثير على مجريات الانتخابات السودانية التي جرت في العام 1953م. وكان صاحب إحدى الشهادات التي استمع إليها البغدادي شهادة لمدير الري المصري. أما الشهادة الأخرى فكانت لصحفيٌّ مصريٌّ كان في زيارةٍ للسودان. ذكر البغدادي، أن الانطباع الذي خرج به من الاستماع إلى هذين الشخصين، أن ما قام به الصاغ صلاح سالم قد أضر بسمعة مصر، كما أنه أثار الشكوك حول وطنية الأحزاب الاتحادية.
أورد الدكتور منصور خالد، أيضًا، أن محاكمة جريدة “الناس” الأسبوعية، التي تم رفع دعوى ضدها في قضية نشر، وتولى فيها الدفاع عنها الأستاذان، محمد أحمد محجوب، ومحمد إبراهيم خليل، قد شهدت إقراراً من شاهدي الدفاعٍ في تلك القضية، وهما: خلف الله خالد، وميرغني حمزة. قال هذان الشاهدان إن حزبهما، وهو “الحزب الوطني الاتحادي”، قد تسلم أموالاً من صلاح سالم، ومن محمد أبو نار. وقد علق الأستاذ بشير محمد سعيد، رئيس تحرير صحيفة الأيام، على فوز عبد الرحمن علي طه في دائرة المسلمية في انتخابات 1958، بعد أن خسرها أمام حماد توفيق المدعوم مصريًّا في العام 1953م، بقوله: “ويلذ لي هنا أن أذكر أن السيد عبد الرحمن علي طه ما كان ليفقد دائرة المسلمية في انتخابات عام 1953م، لولا أن حكومة مصر في ذلك الوقت قد سخَّرت كل إمكانياتها لإسقاطه”. ومضى بشير محمد سعيد ليقول إن مصر أرسلت الدرديري أحمد إسماعيل، واليوزباشي أبو نار، وغيرهما، لشراء الذمم والضمائر، وإفساد الناخبين. وأن مصر قد أنفقت عشرات الألوف من الجنيهات لإسقاط عبد الرحمن علي طه. (راجع: فدوى عبد الرحمن علي طه، أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه (1901 1969)، الخرطوم: دار النشر جامعة الخرطوم، (2004)، ص ص 320- 321).
مصر تستخدم الاتحاديين
بعد أن قرر السودانيون، بالإجماع، عند لحظة الاستقلال وخروج البريطانيين من البلاد، رفض خيار الوحدة مع مصر، تحوَّلت الخطة المصرية البديلة للهيمنة على السودان، نحو لم شمل الحزبين الاتحاديين؛ الحزب الوطني الاتحادي، وحزب الشعب الديمقراطي، ليصبحا ذراعًا خادمًا لها داخل السودان. وحانت الفرصة الذهبية لمصر بعد أن فقد السيد، إسماعيل الأزهري السلطة في عام 1956. فالأزهري الذي أشعر المصريين بأنه أقوى نصير لخيار الوحدة معها، وقامت مصر، بناءً على ذلك، بدعمه بالأموال في انتخابات 1953، فأصبح رئيسًا للوزراء، غير رأيه لحظة الاستقلال وانحاز إلى خيار رفض الوحدة لكن، نتيجةً لسقوط حكومته، عاد إسماعيل الأزهري، الذي عُرف بالبراغماتية، إلى مغازلة مصر مظهرا استعداده للعودة إلى الحضن المصري، من جديد.
كانت الحكومة التي أعقبت حكومة الأزهري هي حكومة حزب الأمة. وكانت برئاسة الأمين العام لحزب الأمة، عبد الله خليل. وقد تشكلت بناءً على إئتلافٍ بين حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي. وكان العداء، حينها، مستحكمًا بين الحزبين صاحبي النزعة للاتحاد مع مصر، وهما: الحزب الوطني الاتحادي، الذي يترأسه إسماعيل الأزهري، وحزب الشعب الديمقراطي التابع لطائفة الختمية، التي يرعاها السيد علي الميرغني. بسبب ذلك العداء المستحكم، استطاع حزب الأمة أن يجر إلى جانبه حزب الشعب الديمقراطي ليكوِّنا معًا حكومة إئتلافية سُميت بـ “حكومة السيدين”، إشارةً إلى زعيمي الطائفتين الكبيرتين، السيد علي الميرغني، والسيد عبد الرحمن المهدي. وقد كان حزب الشعب الديمقراطي مستعدًا أصلا للثأر من إسماعيل الأزهري وزملائه من رموز الحزب، الذين ظلوا يسيئون إلى السيد علي الميرغني، ويسخرون منه عبر حملاتٍ هجوميةٍ مكثفة، برز فيها القطب الاتحادي الشهير، يحي الفضلي.
عنى مجيء حزب الأمة إلى السلطة، بالنسبة لمصر، انتصارًا للتيار الاستقلالي المعادي للوحدة معها، أو، على الأقل، شكل مانعًا أمام إتاحة المجال لها للهيمنة على مجمل الشؤون السودانية، ولو من على بعد. لكن، بما أن الحزب الحليف لحزب الأمة الذي شكل معه الحكومة، هو حزب الشعب الديمقراطي، الذي ترعاه طائفة الختمية، ذات الارتباط الوثيق جدًا بمصر، فقد رأت مصر أن تعمل على جره خارج الإئتلاف الحاكم، ليقف إلى جانب الحزب الوطني الاتحادي بقيادة إسماعيل الأزهري ليسقطا معًا من داخل البرلمان حكومة حزب الأمة بقيادة عبد الله خليل. وبالفعل، استدعت مصر زعماء الحزب الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقرطي إلى القاهرة لترتيب إسقاط حكومة حزب الأمة التي يرأسها عبد الله خليل. وللغرابة، صرح قطب حزب الشعب الديمقراطي، السيد علي عبد الرحمن الضرير، وهو في القاهرة، أنه يقف في المعارضة لحكومة حزب الأمة. قال السيد، علي عبد الرحمن هذا، وللغرابة الشديدة، في وقت كان حزبه؛ حزب الشعب الديمقراطي، لا يزال شريكًا لحزب الأمة في الحكم. بل، ولديه وزراء في حكومة عبد الله خليل، لا يزالون على رأس عملهم. أكثر من ذلك، فقد كان السيد، علي عبد الرحمن نفسه من بين هؤلاء الوزراء في الحكومة القائمة. فقد كان، لا يزال يشغل منصب وزير الخارجية في ذات الحكومة، حين أصرح في القاهرة بأن حزبه يقف في المعارضة!
لابد من الإشارة هنا إلى أن التآمر المصري على حكومة عبد الله خليل قد حدث عقب المواجهة التي جرت بينها وبين الحكومة المصرية حول مثلث حلايب. وكانت قد بلغت من الحدة درجةً جعلت عبد الله خليل يحرك الجيش السوداني نحو مثلث حلايب. وقد انفجرت تلك الأزمة بسبب إدخال السودان مثلث حلايب ضمن الدوائر الانتخابية السودانية. وقد كان ذلك سلوكًا طبيعيًا من جانب السودان، فحلايب سودانية وقد كانت بالفعل تحت الإدارة السودانية. وقد بقيت تحت الإدارة السودانية إلى أن احتلها عنوةً الرئيس المصري حسني مبارك، ردًّا على محاول اغتياله في اديس أبابا، التي دبرها نظام الإسلامويين السوداني في عام 1995. تراجع النظام المصري في فترة جمال عبد الناصر عن تصعيد المواجهة في قضية حلايب. وسبب ذلك فيما يبدو أن النظام كان يعد العدة لمناقشة مشروع اتفاقية 1959 لمياه النيل مع السودان. وبالفعل، كعادة المفاوضين السودانيين في الغفلة، جرى التوقيع على تلك الاتفاقية الكارثية ذات القسمة الطيزى. ويكفي من كارثيتها أن أحد أهم بنودها كان موافقة السودان على إنشاء السد العالي، نظير موافقة مصر على إنشاء السودان خزان الروصيرص. الشاهد، أن إجراء الحكومة السودانية الانتخابات في مثلث حلايب، بوصفها جزءً لا يتجزأ من السودان، قد تواصل في كل الانتخابات اللاحقة، دون أي اعتراضٍ من الجانب المصري، إلى أن احتلتها مصر في عام 1995ن ولم تخرج منها حتى الآن.
مصر وانقلاب عبود 1958
أحس رئيس الوزراء عبد الله خليل بأن الاستعمار المصري الذي خرج من الباب، قد أخذ يحاول أن يعود عبر النافذة، مستخدمًا الحزبيْن الاتحاديين استخدامًا سيئًا يهدد استقلال البلاد وسيادتها. لحظتها، وضح أن شؤون السودان تجري إدارتها من القاهرة. وأن القاهرة تجد من السياسيين السودانيين، من هو جاهز للتعاون معها في هذا التدخل السافر القبيح. لذلك، لأجل قطع الطريق على إسقاط حكومته عبر انسحاب حزب الشعب الديمقراطي من الائتلاف الحاكم، بطرح صوت الثقة فيها، وهي لم تكمل عامها الثاني بعد، دعا عبد الله خليل الفريق إبراهيم عبود قائد الجيش لاستلام السلطة. وهكذا، حدث أول انقلاب عسكري على النظام الديمقراطي في السودان. وكان ذلك بعد عامين فقط من الاستقلال. ومن هنا بدأ مسلسل الانقلابات العسكرية في السودان. وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء عبد الله خليل يتحمل وزر الانقلاب، إلا أن في وسع المرء أن يقول: لولا التدخل المصري السافر في الشؤون السودانية وارتضاء الحزبين الاتحاديين أن يكونا مطيةً لخدمة المصالح المصرية في السودان، لما حدث الانقلاب. ولربما استمر النظام الديمقراطي في السودان، في ثباتٍ ونماءٍ، مثلما استمر في الهند إلى اليوم، التي نالت استقلالها قبل السودان بتسعة أعوامٍ فقط. ورغم أن عبد الله خليل قد قصد بدعوة قائدة الجيش لاستلام السلطة أن يبعد التأثير المصري على السياسة السودانية، فإن نظام الفريق عبود العسكري على الرغم من توجهه نحو الغرب مخالفًا بذلك خط الرئيس جمال عبد الناصر الواقع في الحضن السوفيتي، إلا أن نظام عبود كان ضعيفًا جدا أما النظام المصري. وعلى الرغم من ان اتفاقية السد العالي جرى التوافق عليها في الفترة الديمقراطية، إلا أن فترة حكم الفريق إبراهيم عبود هي التي شهدت تهجير أهالي حلفا وإغراق الأراضي السودانية بزرعها وضرعها وكنوزها الأثرية التي لا تقدر بثمن. فقد جرى إخلاء المنطقة ونقل أهاليها المنطقة إلى سهل البطانة لكي تتمدد بحيرة السد العالي داخل الأراضي السودانية.
انقلاب العقيد جعفر نميري 1969
لقد كانت طبيعة ما يسمى داخل القوات المسلحة “تنظيم الضباط الأحرار”، طبيعةً قوميةً عربية. وكان هذا التنظيم ذو الميول القومية العربية هو الذي وقف وراء انقلاب العقيد، جعفر محمد نميري على النظام الديمقراطي في السودان في عام 1969. وواضحٌ أن قيام تنظيم تحت مسمى “الضباط الأحرار” داخل الجيش السوداني لم يكن سوى انعكاسٍ للتأثير المصري المباشر وخط مصر في معاداة الغرب، حينها، ومعاداة التحول الديمقراطي. وهما السمتان البارزتان في سياسات الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر. وقفت الأحزاب السودانية موقفًا سلبيًّا إزاء انقلاب جعفر نميري. وكان الحزب الوحيد الذي أسفر بتأييد الانقلاب هو الحزب الشوعي السوداني، بل وأصبح بعض قيادييه وزراء في حكومة نميري الأولى.
من أبرز علامات التعاضد بين نظام جمال عبد الناصر العسكري في مصر مصر ونظام جعفر نميري العسكري في السودان وعلى حرص مصر على بقاء النظام الخاضع لإرادتها في السودان في سدة الحكم، تدخل سلاح الجو المصري لقصف الجزيرة أبا أثناء النزاع المسلح الذي نشب بين قوى المعارضة الحزبية، ونظام جعفر نميري في عام 1970. لكن، بعد عامٍ واحدٍ من أحداث الجزيرة أبا حدثت محاولة انقلابية قام بها الحزب الشيوعي السوداني على جعفر نميري. فما كان من مصر إلا أن تدخلت بالاتفاق مع العقيد معمر القذافي لإفشال ذلك الانقلاب. بناءً على ذلك الاتفاق قامت ليبيا باعتراض الطائرة المدنية البريطانية التي كانت تحمل قائدي الانقلاب العائدين على متنها من لندن إلى الخرطوم، عند مرورها فوق سماء بنغازي. أُنزلت الطائرة في مطار بنغازي وجرى اعتقال قائديْ الانقلاب، الأمر الذي أفشل الانقلاب.
أيضًا شهدت بدايات فترة حكم نميري ما سمي مشروع الوحدة الثلاثية بين مصر وليبيا والسودان. ولكن سرعان ما دبَّت الخلافات بين مكونات هذا الحلف الثلاثي، خاصةً عقب وفاة الرئيس جمال عبد الناصر في نفس عام 1970. فقد اتسعت الشقة بين معمر القذافي وجعفر نميري، وبلغت حدًا جعل القذافي يفتح معسكرات للتدريب على حمل السلاح للمعارضة السودانية في جنوب ليبيا. من تلك المعسكرات انطلقت محاولة 1967 المسلحة التي حاولت إسقاط نظام جعفر نميري بعمل عسكري جرى في داخل العاصمة الخرطوم. وفي تعدٍّ آخر، أرسل القذافي طائرة عام 1984، لتقصف إذاعة أمدرمان ومنزل السيد الصادق المهدي. أما السادات فقد أضطر إلى توجيه ضربةٍ موجعةٍ للعقيد القذافي في عام 1977، بسبب تحرش القذافي بمصر، بسبب توقيعها اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل. وعمومًا، فإن فترة حكم نميري قد اتسمت بالتبعية الكبيرة لمصر. فقد أنشأ نميري حزبه الأوحد الحاكم في السودان، الاتحاد الاشتراكي السوداني، على غرار حزب عبد الناصر الحاكم، المسمى الاتحاد الاشتراكي العربي. وفي عام 1982 وقَّع نظام الرئيس حسني مبارك ونظام الرئيس جعفر نميري ما سمي ميثاق التكامل بين مصر والسودان. لكن، لم تنجح تلك الإجراءات الفوقية في خلق أي صورة عملية للتكامل الاقتصادي أو السياسي أو العسري بين مصر والسودان. فبعد عام واحدٍ من توقيع ميثاق التكامل أعلت جعفر نميري تطبيق الشريعة الإسلامية متخذًا خطًا إخوانيًّا صريحا.
ويبدو أن خطة مصر للهيمنة على السودان، قد انحصرت، في نهاية الأمر وبعد عديد التجارب، في دعم الأنظمة العسكرية في السودان. فبعد أن دعمت انقلاب جعفر نميري، الذي أسقطته ثورة أبريل الشعبية في عام 1985، عادت مصر لتكون أول الدول التي اعترفت بانقلاب الترابي/البشير في عام 1989 الذي قوَّض الديمقراطية الثالثة. ومع كل حالات الشد والجذب التي حدثت بين مصر ونظام الترابي/البشير في فترة حسني مبارك، ورغم قمع نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي الحالي الوحشي للإسلاميين في مصر، نجدها قد وقفت ضد ثورة ديسمبر 2018 الشعبية في السودان، التي لا تزال فصولها تتوالى حتى الآن. قدمت مصر للفريق البرهان وللإسلاميين الواقفين خلفه كل أنواع الدعم العسكري والديبلوماسي، مع انخراطٍ لا يني في شق صفوف الثوار، وفي تشكيل الحواضن الشعبية الضرارٍ الساندة للفريق البرهان، لكي يستعيد هو والإسلامويون كامل سلطتهم، ويقضوا على الثورة السودانية التي انطلقت مطالبةً بالحكم المدني وبالتحول الديمقراطي، قضاءً مبرما.
(يتواصل)