رأي

صلاح جلال يكتب: المبادرة الأمريكية وعقبة مكاسب ما قبل التفاوض

(١)

المبادرة الأمريكية لوقف الحرب في السودان تأتي في سياق ظرف وطني وإقليمي ودولي معقد، لم تأتي من فراغ فقد سبقتها عمليات إحماء محلية وإقليمية ودولية هامة، منها مؤتمر باريس لمواجهة الحالة الإنسانية في السودان ومؤتمر الجامعة العربية فى مصر وورشتين فى سويسرا، وتلتها قرارات مجلس السلم والأمن الأفريقي على مستوى الرؤساء ثم اجتماع القاهرة للقوى المدنية واجتماعات جيبوتي الأخيرة وورش عمل متعددة في بعض العواصم الأفريقية. وقبل ذلك الحدث الأبرز وهو اجتماع القوى الديمقراطية المدنية [تقدم] وانتخاب قيادة مدنية ذات مِصداقية وازنة على المستوى الوطني والإقليمي والدولي. يوجد خيط ناظم بين كل هذه التحركات جاءت في سياق المبادرة الأمريكية الراهنة، فهي ذات دلالة من حيث الشكل والموضوع، فقد ذكر المبعوث الأمريكي للسودان توم بيريلو، أنهم عازمون على إنهاء الحرب في السودان خلال الأسابيع القليلة القادمة، وسبقته للتصريح مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن ليندا غرينفيلد  بالقول (كفاية) بإنجليزية فصيحة Enough، العالم لا يحتمل المزيد من الفظائع التى تحدث في السودان. وقد ذكر بيريلو ستكون هناك محاولة أخيرة لوقف القتال المدمر في السودان والمهدد للأمن والسلم الدوليين، إذا أظهر طرفي الحرب جدية في اغتنامها ستكون المنجية للشعب السوداني، وبالعدم لا بد من تفعيل الخطة (ب)Plan B، لإنقاذ الشعب السودانى، هذا هو المناخ العام الذي أنتج المبادرة الأمريكية وهو يمثل المقدمات الموضوعية التى تحكم النتائج والتصرفات المتوقعة.

(٢)

المبادرة الأمريكية تأتي في خضم المعركة الانتخابية لرئاسة البيت الأبيض، وبالتالي تصبح جزء من مؤشرات الحملة للحزب الديمقراطى. لذلك هي مبادرة محسوبة بعناية للحد الذي لا يتيح فرص للفشل فيها، ويتوقع أن تكون هناك عدة سيناريوهات لضمان الوصول للنتيجة المرجوة، خاصة أن الإدارة الديمقراطية متهمة بالضعف في سياستها الخارجية في إشارة للتعامل مع الملف الإيراني وملف الإنسحاب من أفغانستان وملف حرب غزة. إن المخطط الديمقراطى اختار هذا التوقيت والشكل والمضمون لمبادرة وقف الحرب في السودان Soft Target دون أي هامش احتمال للخطأ وعدم تحقيق الهدف. ومن تقاليد الشعب الأمريكي الوقوف مع الرئيس وحزبه في أي نزاع مسلح خارجي، تم هذا مع الرئيس كلينتون عندما ضربت صواريخ كروز مصنع الشفاء في الخرطوم، ارتفعت شعبية كلينتون بالتزامن مع القصف، وحدث ذلك للرئيس بوش الإبن في حالتي الحرب في أفغانستان والعراق. لذلك أتوقع أن تكون خيارات الولايات المتحدة في مبادرتها ستكون النجاح أو النجاح، ولا مكان للفشل أو التراجع الذي تترتب عليه نتائج  انتخابية وخيمة بما يعزز فكرة فشل الحزب  الديمقراطي فى السياسة الخارجية في عين الناخب الأمريكى، وهذا غير مسموح أو  مرغوب فيه في هذا التوقيت.

(٣)

من حيث الشكل، اختارت الولايات المتحدة الأمريكية الانفراد بالإعلان عن المبادرة، وأن يقوم بالإعلان عن ذلك رئيس الدبلوماسية الأمريكية حول العالم أنتوني بلينكن وزير الخارجية، كما حددت الولايات المتحدة إطار المبادرة في ثلاثة أهداف رئيسية هي: وقف عاجل لإطلاق النار، وضمان عملية إنسانية شاملة لتوصيل الغذاء للمحتاجين داخل البلاد دون تعويق، والهدف الثالث والأخير تشكيل آلية تحقق ورقابة فعالة لإطلاق النار. كما اختارت الولايات المتحدة المراقبين للمفاوضات من الدول والمنظمات والدول المضيفة وهى المملكة العربية السعودية  Co Host ودولة سويسرا، واختيار الأخيرة مستضيف للمفاوضات له دلالة واضحة وهي إشراك أوروبا وحِلف النيتو في الخطوات اللاحقة للتفاوض، وخاصة قضية الرقابة الفعالة لوقف إطلاق النار ورفع العصا لمن عصى إذا تقاصرت قدرات مجلس الأمن عن اتخاذ القرارات الحاسمة.

(٤)

كتب الرئيس ريتشارد نيكسون كتابه المرجع في الدبلوماسية “نصر بلا حرب”، على ذات القافية – المبادرة الأمريكية والسباق على مكاسب ما قبل التفاوض:

لقد سبق الدعم السريع بتأييده للمبادرة ومن سبق أكل النبق، قيادة القوات المسلحة ما زالت فى مرحلة الدراسة وتفهم المؤشرات ولكنها أطلقت يد السواقين من الخلف Backseat Drivers  من أنصارها لاختبار عمق المياه. تمثل ذلك في تصريحات دكتور أمين حسن عمر ومجموعة المشتركة المتحالفة في الحرب، فقد طالبوا بإشراكهم في المفاوضات، ما يعني أن المفاوضات تشمل بجانب قيادة الجيش مناوي وجبريل وعقار وتمبور وعبدالله جنا وممثل لكتائب البراء والمستنفرين والتوم هجو وأردول. فقد ذكرهم جميعاً الفريق ياسر فى أحد تصريحاته بأنهم يحاربون بجانبهم، وقد تفتقت ذهنية دكتور أمين حسن عمر المفاوض الأشهر حول صراع السلطة والثروة مع الحركات المسلحة أيام الإنقاذ على التعبير عن مكاسب ما قبل التفاوض (مرحلة التفاوض تحت الطاولة) وهو إنتزاع اعتراف من الأمريكان بأن حكومة بورتسودان تمثل الحكومة الشرعية فى البلاد والدعم السريع محض مليشيا متمردة.

وبالتالى يجب على الأمريكان توجيه الدعوة للحكومة وليست لقيادة القوات المسلحة، والنقطة الثانية أن لا بد للتفاوض من إعلان مبادئ الذى يجب أن تتفق عليه أطراف التفاوض، فقد قفز السيد أمين حسن عمر، على تجربة الإنقاذ التفاوضية، فقد طرحت الإيقاد أجندة التفاوض من خلال إعلان مبادئ كتبه السيد سيوم مسفن وزير خارجية أثيوبيا والقيادي في جبهة تغراى TPLF كبير الوسطاء عن مبادرة الإيقاد قبل تعيين الجنرال سمبوية الكينى الجنسية. كل ما تقدم هو محاولة من قيادة القوات المسلحة لتحقيق مكاسب ما قبل التفاوض التي أعتقد أن هناك صعوبة بالغة لدى المفاوض الأمريكي بمنحها لهم. ستكون المبادرة الأمريكية صماء كما هي، خذها أو أرفضها Take it Or Leave it. فى حالة الرفض تترك الخيارات مفتوحة للطرف الأمريكي المبادر وبقية المجتمع الدولي الذي يرى ضرورة وقف القتال لضمان سلامة المدنيين والتدخل الإنساني والحفاظ على السلم والأمن الإقليمي، فالمبادرة الأمريكية  “بيضة أم كتيتي” كما وردت فى المثل السوداني، إذا أخذتها تقتل أمك وإذا تركتها تقتل أبوك.

(٥)

ختامة:

لا بد لنا أن نتعلم من دروس التاريخ أن الفرص التي تذهب في ظروف الجذر، لن تعود بل ستأتي أسوأ منها وتضيق فرص المناورة.

هذا الحرب وصلت لنهايتها، لأسباب ذاتية: أزمة إقتصادية طاحنة أقرب للانهيار العمودي، ونذر مجاعة شاملة، وحكومة عاجزة عن تقديم الاحتياجات الضرورية للمواطنين. وحتى في بورتسودان الشعب السوداني في أغلبيته بلغ به الزهد لدرجة عالية في هذه الحرب، ويتطلع لوقفها أمس وليست غداً، العالم الذي نعيش فيه ليست مثالي ولكنه واقعي، أقول لقيادة القوات المسلحة أخشى أن تصبحوا رِسالة في ظرف تخاطب الناخب الأمريكي، لذلك شحن مكبرات الصوت بالمفردات المفخخة لا يحقق نصر على الواقع.

نصيحتي لقيادة القوات المسلحة قبول الدعوة للتفاوض بالتي هي أحسن بدل انتظار التي هي أخشن، مما يحفظ لما تبقى من الجيش كرامته ووضعه بأيديهم على منصة إعادة التأسيس بعد تجربة الحرب المريرة التي كشفت عوراته، والتى تم توريطه فيها فدفع شعب السودان الثمن. ونختم بمرثية الشاعر محمد المكى إبراهيم التى ينعي فيها الوطن  وجثامين الأحبة التى كنا ندخرها أوتاداً لتراب الوطن تتفرق بين مدافن القاهرة وأدري وكمبالا وبقية المنافي، ونحن لا نحسب تراب جوبا غربه فهنيئا لمن اتكأ جسده المنهك فيه.

إنني ذاهب فاهنأوا أيها الظافرون

في الفراغ تُجلجلُ حِكمتكم

وتروجُ حوانيتكم

فأنظروا ما فعلتم بنا

إن صقرا عجوزاً مليئاً بحِكمته

وغُبارات أيامِه يذهبُ

في نهايات عُمرِه يتغرب

٢٧/يوليو /٢٠٢٤م

(نقلا عن التغيير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى