رأيعبد الله علي إبراهيم

مانديلا وسمفونية التآخي: الرئيس يريدنا أن نفوز بالكأس

عبد الله علي إبراهيم

دعوت في كلمتي “سائحين زي ديل” إلى أن الصلح الوطني التاريخي في الوطن لن يقع لنا ما لم تورق فينا روحانية لقبول الآخر وإن شط طالما تبين لنا جميعاً أن “من فش غبينته ودر مدينته”، في كلمة عذبة للإمام الصادق المهدي. وسأنشر تباعاً كلمات هنا عن ما أعنيه بهذه الروحانية المدنية.
عرضنا في كلمة الأمس لصناعة مانديلا لأمة جنوب أفريقيا المتآخية كما صورها الفيلم “إنفيكتس” (20099). فأرانا الفيلم كيف حمل الرجل قومه السود على التعاطف مع فريق إسبرينقبوك الأبيض والحماسة له في مباريات كأس العالم للرقبي عام 1995. وكان ذلك محملاً صعباً. فجنوب أفريقيا قبل ماندلا أمتان ولعبتان. أمة السود لها كرة القدم وأمة البيض لها الرقبي. ولا يلتقيان. ولا يكره السود شيئاً مثل الرقبي البيضاء. بل كانوا يثأرون لأنفسهم من البيض بتشجيع كل فريق “أجنبي” منافس للسبرينقبوك. حتى ماندلا فعلها في الماضي باعترافه.
صفوة القول عن الفيلم إنه عن عزائم القيادة للأمة في المنعطف الصعب. فقادة الحركة الشعبية عندنا يتنصلون عن القيادة حين يقولون (بغير براءة) إن الانفصال من عدمه خيار للجنوبيين لا نوحي لهم فيه بشيء. ولكن لم يتردد ماندلا من اقتحام اجتماع لإداريين سود اتخذوا قراراً “ديمقراطياً” بحل فريق الإسبرينقبوك الأبيض تشفياً. وتمنع الزعيم على نصح سكرتيرته بألا يسيء للديمقراطية ورأي الشعب قائلاً إن الشعب قد يخطئ وقد انتخبني لأقوده، فكيف لي قيادته وأنا لا أراجعه في خطئه.
ولم يكن ماندلا شاذاً في السماحة حيال الآخر بعد النصر. فسلوفو، سكرتير الحزب الشيوعي، هو الذي اقترح ما عرف ب”مادة الشمس الغاربة” خلال المفاوضات بين أطراف الأزمة في جنوب أفريقيا. وهي مادة تلزم حكومة الوحدة الوطنية التي ستأتي بعد الانتخابات (وهي سوداء بالنظر إلى حجم السكان) بألا تفصل موظفاً في الخدمة المدنية. فأَمَّن البيض من خوف التطورات المجهولة التي انتظرتهم.
وتميز في سمو مطلب القيادة البيشوب ديسموند توتو زعيم الكنيسة الإنجيلية الأسود والحائز على جائزة نوبل للسلام. فمحاكم الحقيقة والتعافي، مضرب المثل، هي من وحي إنسانيته وسياسته. فقد أملت عليه سماحة المسيحية وأعراف الإنسانية الأفريقية أن يقول لكهنة الفصل العنصري البيض “لقد عفونا عنكم” في نحو 1990 قبل اكتمال الصلح بين السود والبيض. وقد لقي الأمرين ل”تهافته” على السماحة. ولكنه لم يتلجلج. وثابر على روح السمو والسماحة وبثها في محاكم الحقيقة والتعافي اللاحقة حتى قيل عنها إنها طقوس دينية أكثر منها محاكم للقانون. فالحقيقة في محاكم القانون تجرمك بينما تطلق سراحك في محاكم التعافي متى ما صدعت بها.
وأعطى الفيلم صناعة القيادة السمحاء حيزاً طيباً. فقد طلب ماندلا كابتن فريق الإسبرينقبوك، فرانسواز باينار، إلى مكتبه. وواضح أنه اراد ان يعقد معه شخصياً حلفاً للنصر في كأس العالم للرقبي ليعطيا جنوب أفريقيا الجديدة سبباً لتجاوز شقاقها التاريخي في مهرجان النصر. سأل ماندلا الكابتن عن كيف يقود فريقه. فقال بالقدوة. فأتفق معه ماندلا وقال إن علينا أن نلهم من حولنا إلهاماً يستقطر منهم همة تزيد على توقعات أيا منا. ثم أطلع ماندلا الكابتن على قصيدة “إنفكتس” (التي ترجمتها في الكلمة السابقة) والتي ألهمته الصبر والصمود في غياهب سجنه الطويل. ولما خرج الكابتن سألته حبيبته: كيف وجدته. قال: كما لم أجد أي شخص آخر قبله. فسألته: كيف. قال: أظنه يريدنا أن نفوز بالكأس. وفاز.
وعبأ ماندلا السود والبيض معاً للنصر. وأطلق شعاره: فريق واحد، بلد واحد. وهذا التماهي بين الرياضة والسياسة هو ما حدّث ماندلا عنه كابتن الفريق قائلاً: الرقبي عنيفة مثل السياسة. واستعد ماندلا مثل الكثيرين للمباراة. كان يجلس إلى سكرتيرته “يذاكر” أسماء اللاعبين حتى يناجيهم بها حين يلقاهم في الميدان. ولم يقبل برأي أي خبير عن ضعف الإسبرينقبوك. فقال لوزير الرياضة حين حدثه عن قول الخبراء: “لو صدقنا الخبراء لكنت أنا وأنت في السجن ما نزال”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

للتفاعل مع الكاتب 

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: شارك الخبر، لا تنسخ