في خضم حرب معقدة ومتعددة الأوجه، شهدت البلاد انتقالًا لافتًا في طبيعة المواجهات العسكرية، عنوانه الأبرز: الدعم السريع اختار الميدان، أخيرًا..
منذ صبيحة الغدر في ١٥ أبريل، خاضت قوات الدعم السريع معاركها في ظروف فرضها العدو، من حرب المدن والشوارع الضيقة والمباني العالية والقناصة والخنادق، إلى حرب الاستنزاف الإعلامي والسياسي.. ومع كل جولة، تتكشف محدوديتها في بيئة حضرية تتطلب سيطرة ثابتة، تماسكًا تنظيميًا، وخبرة تكتيكية من طراز آخر..
لكن المعادلة تغيرت..
انسحاب الدعم السريع من مناطق حضرية كالخرطوم، أم درمان، مدني وسنار، لم يكن ذلك إعلان هزيمة، بل إعادة تموضع ذكي نحو بيئة يعرفها جيدًا، ويملك فيها التفوق الطبيعي: السهول المفتوحة..
في كردفان ودارفور، حيث لا أبراج، ولا خنادق، ولا حواجز خرسانية، تتنفس آليات الدعم السريع بحرية.. هناك، لا تفيد الدبابات الثقيلة ولا الطيران كثيرًا.. الأرض فسيحة، تسمح بالانتشار، بالمباغتة، وبالكرّ والفرّ.. هناك يعود الدعم السريع إلى حربه الأصلية: خفيفة، متحركة، سريعة، ومبنية على الخبرة الميدانية في تضاريس الرمال والفراغ..
الأهم من ذلك، أن هذا التحول الاستراتيجي لا يُضعف الجيش فحسب، بل يضعه أمام خيارين كلاهما مر: إما أن يخرج من المدن ويتبع الدعم السريع إلى السهول، حيث يخسر تفوقه الناري والتحصيني، أو أن يتحصن في المدن، فيبدو كمن فقد المبادرة، ويخسر معها حلفائه من حركات دارفور، ويخسر أيضًا ثقة داعميه..
بانسحاب الدعم السريع غربًا من وسط البلاد، أصبحت الحرب ليست مجرد معركة على الجغرافيا.. بل معركة على الإيقاع.. معركة على من يفرض شروط اللعبة.. ويبدو أن الدعم السريع، لأول مرة منذ اندلاع هذه الحرب، فرض هو ميدانه، بشروطه هو، وأجبر خصمه على الاختيار داخل حلبة من صنعه..
لم تكن حرب المدن يومًا ميدان يجيد الدعم السريع اللعب فيه، ولم تكن ناطحات الخرطوم، ولا شوارع أم درمان، ولا بنايات مدني هي ساحاته التي يُجيد فيها العزف على أوتار القتال.. هم أبناء الرمل، وُلدوا على الكثبان، وتعلموا من الطبيعة فنون المباغتة، وتوارثوا الحرب كما تورث الأرض.. عادوا إلى ميدانهم الطبيعي في السهول المفتوحة، فهناك لا يتحصن عدو، ولا يختبئ خلف عمارة، ولا يعتلي برجًا للقنص.. وهناك تُحسم المعارك بالسرعة، بالذكاء، وبإرادة القتال لا بجدران الأسمنت ولا جيوش المرتبات..
والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل يملك الجيش الجرأة للخروج من الخرسانة، ودخول رمال الحرب التي يجيدها خصمه؟! أم سيكتفي بدفع حلفاءه لمعركة بدأ يعرفها هو بأنها معركتهم لا معركته؟!