هؤلاء الذين بنوا الكلية الحربية، لم ينسوا “سياسة المناطق المغلقة” التي زرعها الاستعمار، ولا شعاره الشهير “فرق تسد”. بل أعادوا إنتاجها بإتقان، فصنعوا النخب، وفرّقوا الشعوب، وزرعوا الكراهية بين مكونات الأمة، ليضمنوا بقاءهم على سدة الحكم..
حين خرج المستعمر من بلادنا لم يترك خلفه فراغًا، بل أورث أدواته وأفكاره لمن تعاونوا معه، فغادر هو بالجسد، وبقي فيهم بالعقل والسلاح.. هؤلاء الورثة لم يكتفوا بخيانة الأرض يوم فتحوا أبوابها للمحتل، بل استمروا في مشروعه بعد خروجه، حتى صاروا إمتدادًا له لا فرق بينهم وبينه، سوى أنهم يحملون ملامحنا وأسماءنا..
إن من فتحوا أبواب الشمال للمستعمر واستقبلوه فرحًا، واستضافوه كرمًا، ثم قاتلوا إلى جانبه في عدة معارك ضد الثوار.. وقاتلوا معه في معركة كرري الشهيرة، لم يكونوا مجرد خونة للحظة، بل هم أصحاب مشروع مستمر.. فقد كانت كرري معركة فاصلة، ليس فقط بين السلاح الناري الحديث الذي استخدمه المستعمر، وسيوف أنصار الخليفة ود تورشين، بل كانت صراعًا بين الإرادة الوطنية، والرغبة في التبعية والاستسلام وطمعًا في توريث السلطة ولو كانت ببيع الوطن والحرمات..
المستعمر وورثته لم يكتفوا بالانتصار العسكري في كرري، بل أسسوا بعده منظومة كاملة لضمان استمرار الهيمنة على الشعب.. أنشأوا الكلية الحربية في ذات الأرض التي سالت فيها دماء المقاومين، وتأسيسها على أرض كرري لم يكن مجرد اختيار جغرافي، بل رسالة مشبعة بالرمزية: أن من يَهزِم يترك خلفه من يواصل المهمة بقمع كل نبض وطني أو ثورة شعبية.. وهي مفارقة مؤلمة أن تتحول أرض البطولات إلى مصنع يُخرّج من يقمع بذات البندقية التي أُريقت بها دماء الأحرار.. حتى أصبحت هذه المؤسسة رمزًا لتحالف البندقية مع السلطة، وتحولت من مؤسسة لحماية الوطن إلى أداة لقمعه..
هؤلاء الذين بنوا الكلية الحربية، لم ينسوا “سياسة المناطق المغلقة” التي زرعها الاستعمار، ولا شعاره الشهير “فرق تسد”. بل أعادوا إنتاجها بإتقان، فصنعوا النخب، وفرّقوا الشعوب، وزرعوا الكراهية بين مكونات الأمة، ليضمنوا بقاءهم على سدة الحكم..
واليوم، في حرب أبريل، تجلّت هذه الحقيقة المؤلمة بوضوح.. فذات النخب، وذات المؤسسات، التي نشأت من رحم الخيانة، لم تدخر سلاحًا إلا واستخدمته في وجه الشعب، تمامًا كما فعل المستعمر.. من الرصاص الحي، إلى القصف الجوي، وصولًا إلى السلاح الكيميائي.. فلم تعد هناك خطوط حمراء في قمع من يطالب بالحرية والعدالة..
ما يفعله ورثة المستعمر اليوم ليس سوى استمرار لتاريخ طويل من القمع والخيانة.. فالشعب الذي قاوم الغزاة بالأمس، يقاوم اليوم من يشبههم.. وبين معركة كرري واليوم، ما تغيّر هو الوجوه، أما البنادق، والفلسفة، والإجرام فباقية على حالها..
هذه الحرب هي امتداد لتاريخ نضالي طويل لتأسيس وطن حر بحق لا يقبل استعمار ولا وصاية.. فمثلما حمل الأشاوس سيوفهم ضد الأبيض الغازي.. اليوم يحملون نارهم ضد الأسود بأقنعة بيضاء.. ونعلم أن معركتنا لا يجب أن تكون فقط ضد الطغاة الجدد، بل ضد الذاكرة المزيفة التي تمحو الحقائق، وضد المؤسسات التي بنيت على باطل.. ونعمل أن يكون لا بد من إعادة كتابة التاريخ بعيون الضحايا، وإعادة بناء الدولة على أسس العدالة لا على إرث المستعمر..