رأي

محمد حسن مامادو يكتب: أشياء بسيطة عن شرق دارفور

(السلام هو ألا تحارب من يريد السلام).

ملحمة إنسانية كتبها أهل شرق دارفور البسطاء إبان حرب الخامس عشر من أبريل وضاعت وسط أصوات الحرب المرتفعة والتي لا تقارع بأي حجة كانت، ولكن أهلها الذين اختاروا أن يكونوا شموعاً تضيء في عتمة الحرب، دعاة سلام في خضم الصراع الدامي.

هناك في قلب شرق دارفور، حيث رسم الأهالي لوحة فريدة من التآخي والتعايش، تروي حكاية شعب أبى إلا أن يكون صانعاً للسلام، لا وقوداً للحرب. 

في تلك اللحظات العصيبة، حين كانت رياح الحرب تعصف بالسودان، وقف أهل الولاية موقفاً شامخاً، رافضين أن تجرفهم دوامة العنف. كانوا كالصخرة الراسخة في وجه موج الفتنة، يقولون “لا” مدوية للصراع، ويمدون أيديهم بالخير لكل محتاج، إذ تسارعت الخطى مع إعلان أول طلقة للصراع في الخرطوم للتوسط بين الطرفين المتصارعين وإثنائهم عن الدخول في أي مواجهة عسكرية ووقف أي تصعيد محتمل.

 لم يكن موقفهم مجرد كلمات تُقال، بل أفعالاً تتجسد كل يوم على أرض الواقع. لم تتوقف المبادرة وقتها فقط في ذلك بل امتدت للإمساك بزمام الأمور كلها، إذ أن ثمة كثير من التحديات قد برزت أولها أمن المواطنين وتأمين الأسواق والمقار الحكومية والخاصة، إذ تواثق الجميع على أن القبيلة الآن هي  شرق دارفور وأن عدو شرق دارفور هو عدو الجميع، كانت رسالة واضحة ومختصرة لأن يشحذ الجميع هممهم لحمايتها.

ويأتي بعد ذلك أمر هيئة المياه بالولاية وكيفية استمرارية خدمة شريان الحياة فيها وتأمين الوقود وقطع الغيار وحوافز موظفيها. وجاء أيضاً إجلاء موظفي مختلف المؤسسات الذين يرغبون بالمغادرة إلى ذويهم أو الذين يرغبون بالمغادرة إلى خارج السودان عن طريق الجنوب. كانت أيضاً من المهمات المهمة هي تأمين طرق القوافل التجارية بالولاية. وعندما بدأت قوافل النازحين تصل إلى المدينة، هاربة من جحيم المعارك، لم يتردد أهل الضعين لحظة في فتح بيوتهم وقلوبهم. تحولت المدينة إلى خلية نحل، يعمل فيها الجميع بصمت وإخلاص لإغاثة المنكوبين، لم يسألوا عن قبيلة أو عرق أو انتماء، بل كان شعارهم الوحيد “كلنا إخوة “.

وبذل الشباب جهوداً واجبة في الاستقبال والإيواء بمبادرات فريدة تعكس معدنهم وإنسانيتهم. في ساحات المدينة، تتعالى صيحات الشباب وهم يتبارون في ملاعب كرة القدم، متناسين خلافاتهم، متجاوزين جراحاتهم، فكرة كرة القدم أصبحت المتنفس الوحيد لأهل الولاية.

وبذل الشباب جهوداً حينما حل ذلك العيد الحزين على السودانيين حيث كانت المراكز الثقافية حاضرة، لتؤكد أن نبض الحياة أقوى من صوت المدافع،  لم تكن هذه مجرد أنشطة ترفيهية، بل كانت جسوراً للتواصل، ومنصات للحوار، ودروساً عملية في التعايش السلمي.

لعبت الإدارة الأهلية دوراً محورياً في هذا المشهد. فبحكمة الشيوخ وخبرة السنين، استطاعوا أن يديروا دفة الأمور بمهارة فائقة. نجحوا في تسيير الخدمات الأساسية رغم شح الموارد، وحافظوا على النسيج الاجتماعي رغم محاولات تمزيقه، كانوا كالربان الماهر الذي يقود سفينته وسط العواصف، بثبات وثقة وإيمان بالمستقبل، فالولاية كانت مهددة بانفجار صراعاتها القبلية المعهودة، وكان الكثير يراهن على انزلاقها نحو صراع أهلي دام يقضي على كل شيء.

رغم كل هذه الجهود النبيلة، واجه أهل المنطقة تنميطاً ظالماً ومطالبات متكررة باستهدافهم، لكنهم اختاروا أن يردوا بالحكمة على الجهل، وبالعمل على الكلام، كان صمتهم أبلغ من الصراخ، وأفعالهم أقوى من التهم. أثبتوا بالممارسة العملية أن الإنسانية لا تعرف حدوداً، وأن السلام ليس شعاراً يُرفع، بل سلوكاً يُمارس.

يقدم أهل شرق دارفور، عبر تجربتهم الفريدة، درساً بليغاً للعالم، يقولون بصمت وقوة إن السلام ليس مجرد غياب للحرب، بل هو موقف إيجابي من الحياة، إنه قرار يتخذه الناس البسطاء كل يوم، حين يختارون التسامح بدل الانتقام، والبناء بدل الهدم، والحب بدل الكراهية. فقد سخر أهل الصلاح وأئمة المساجد اوقاتاً للصلاة والدعاء من أجل السلام والاستقرار، ومحاربة ظواهر التفلت ودعوة الناس لقيم التضامن والتراحم والصلاح وتشهد مآذن المدينة المختلفة على ذلك. 

تبقى قصة الضعين وأهلها شمعة مضيئة في ليل السودان الحالك. هي قصة تستحق أن تُروى، لا لتوثيق لحظة تاريخية فحسب، بل لتكون مصدر إلهام للأجيال القادمة، تؤكد أن الإنسان، مهما اشتدت به المحن، يبقى قادراً على صنع المعجزات، حين يختار أن يكون صانعاً للسلام، حارساً للأمل، مدافعاً عن القيم النبيلة التي تجعل من الحياة رحلة تستحق أن تُعاش.

أخيراً:

(افتح عيناك جيدًا؛ ربما الذي تعاديه هو من يحمل لك الحب والسلام).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى