رأي

محمد عبدالرحمن يكتب: بيان خارجية تشاد.. يعيد تذكيرنا باستراتيجية الزعزعة المتبادلة بين دول المنطقة

هناك إشارة جاءت في خواتيم البيان الصادر عن خارجية جمهورية تشاد في الأيام القليلة الماضية، والتي استنكرت فيه جمهورية تشاد تهمة دعمها للدعم السريع الموجهة من قبل السلطات السودانية، مفاد الإشارة هي أن السودان لم يتوقف عن دعم جماعات مسلحة في تشاد، بل أن السودان تقوم، في الوقت الحاضر، بدعم جماعات إرهابية في تشاد بهدف زعزعة استقرار تشاد، بحسب البيان. 

 وعلى الرغم من أن هذه الإشارة جاءت في سياق المرافعة وإبراء التهمة وحملت بدورها تهمة للسلطات السودانية بدعم جماعات إرهابية في تشاد، أي بمعنى رد التهمة بالتهمة. ولكن وبالنظر إلى علاقات دول المنطقة التي تميزت بالتدخل المستمر والسافر، نجد أن دعم جماعات مسلحة/معارضة في دولة ما بهدف زعزعة استقرارها هي السمة المشتركة بين أغلب دول المنطقة، ولقد عُرف هذا النهج بالزعزعة المتبادلة. والصحيح أن السودان أيضًا عانى من دعم دول الجوار لجماعات/معارضة مسلحة سودانية، غير أن دور السودان في التدخل وانتهاج استراتيجية الزعزعة المتبادلة ربما هو الأعظم قدرًا، ذلك بالنظر إلى التاريخ الذي يخبرنا أن السودان ظل يدعم ومنذ عقود الجماعات المسلحة ذات الطابع السياسي والإجرامي معًا، باعتبار أن أنشطة المجموعات المسلحة في المنطقة خاصة منطقة القرن الأفريقي “تجمع ما بين السياسة والجريمة والانتقام بطرق يستحيل فصلها عن بعضها البعض”، الأمر الذي يجعل السودان مساهمًا في خلق توترات داخلية لدول الجوار والتي أدت بعضها إلى انهيار أنظمتها. 

وبالعودة إلى صفحات التاريخ، نجد أن السودان ومنذ الستينات دأب على دعم المجموعات المسلحة في إثيوبيا رسميًا وشعبيًا، حيث أن السودان دعمت كل من جبهة التحرير الإرتيرية التي أعلنت تمردها في عام 1961م على خلفية إنهاء الحكم الذاتي لإرتيريا من قبل هيلا سلاسي، وكذلك دعم السودان الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا. ورغم أن السودان دعم الجبهتين إلا أن دعمه تركز على جبهة التحرير الإرتيرية “لغلبة الشخصية الإسلامية فيها”، فيما تلقت الجبهة الشعبية لتحرير إرتيريا دعمًا شعبيًا لاعتبار التقاطعات الاجتماعية الحدودية ودعم سياسي من اليسار السوداني بحكم توجهها الماركسي*. وبالمقابل، فإن إثيوبيا من أوائل دول الجوار تلبيةً لطلب حركة أنانيا للدعم والمعونة، ذلك حينما توجهت حركة أنانيا بطلب معونة من دول الجوار. 

والمفارقة هي أن هيلا سلاسي، الذي تم الإطاحة بنظامه بواسطة انقلاب الجيش في عام 1974م، هو من لعب أبرز الأدوار في اتفاقية أديس أبابا في 1972م المبرمة بين حركة أنانيا وحكومة جعفر نميري بوساطة مجلس الكنائس، ذلك من خلال الضغط الذي مارسه على حركة أنانيا ورعايته للمفاوضات نفسها. 

 غير أنّ السودان استمر في دعم الجماعات المسلحة في إثيوبيا مع النظام الجديد المنقلب على هيلا سلاسي، نظام (الدرج) برئاسة منغستو هيلا مريام، الذي أفرز، بالإضافة إلى الجبهتين السابقتين، طائفة من الجماعات/المعارضة المسلحة من بينها الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي والجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي والاتحاد الديمقراطي الإثيوبي وجبهة تحرير أورمو، وكان أغلب هذه الجماعات تتلقى دعمًا من السودان، بل أن السودان كان مقرًا لإدارة العمليات لبعض هذه الجماعات. وبالمقابل، فإن نظام الدرج في إثيوبيا أيضًا تعامل مع السودان بالمثل أي انتهاج استراتيجية الزعزعة المتبادلة، حيث أنه دعم الحركة الشعبية لتحرير السودان ابتداءً من 1983م، بل أن لنظام الدرج دور كبير في تولي د. جون قرنق لقيادة الحركة الشعبية، بحسب بيتر أدوك نيابا. علاوة على ذلك، سلّح نظام الدرج مجموعات قبيلة في بني شنقول وغامبيلا، في إطار الصراع.

 وعلى الرغم من أن هناك تغيرات كثيرة جرت في السنين التالية بما في ذلك استقلال إرتيريا واندلاع حرب بين إثيوبيا وإرتيريا، إلا أن أسلوب الزعزعة المتبادلة بين السودان/إثيوبيا/إرتيريا ما برح قائماً أو متبعاً، حيث وفرت إرتيريا منذ سنوات استقلالها الأولى دعمًا لوجستيًّا وعسكريًّا للمعارضة السودانية (قوات التحالف الوطني) ولاحقا، شاركتها إثيوبيا في ذلك. وبالمقابل دعم السودان وساهم في تأسيس التحالف الوطني الأرتيري في عام 2002م، ذلك قبل أن يتركز دعمه على حركتين إسلاميتين من بين قوات التحالف الوطني الإرتيري. فيما تركز دعم إرتيريا على مؤتمر البجا أو جبهة الشرق بعد أن تحالف مع حركة الأسود الحرة، إلى أن تم توقيع اتفاقية سلام بين جبهة الشرق والحكومة السودانية في عام 2006م. 

 وتدعم إرتيريا، في الوقت الحاضر، نحو سبعة (7) جماعة مسلحة في شرق السودان بما في ذلك مؤتمر البجا وحركة الأسود الحرة قدامى الحلفاء، وإن كانوا يقاتلون هذه المرة في صفوف السلطة في السودان.

علاوة على ذلك، فإن دعم السودان لجماعات مسلحة في دول الجوار لم يتوقف مع إثيوبيا وإريتريا فحسب بل امتد إلى دولة أوغندا حيث دعم السودان جماعة مسلحة بشمالي أوغندا لتقاتل بالنيابة عن الجيش السوداني ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان التي كانت تتلقى الدعم بدورها من أوغندا. وعرفت هذه الجماعة المسلحة الأوغندية التي دعمها السودان ووفر لها مقر ومكتب لقيادتها في مدينة جوبا بجيش الرب للمقاومة. بالإضافة إلى ذلك، فقد طال تدخل السودان الصومال أيضًا، حيث أنه دعم جماعات إسلامية مسلحة في الصومال.

 عودًا على البدء، وبالنظر إلى علاقات السودان التاريخية والسياسية مع جيرانه بمنطقة الساحل وبالأخص مع جمهورية تشاد فنجد أنها لا تختلف عن علاقاته مع دول القرن الأفريقي، حيث أن تاريخ دعم السودان لجماعات مسلحة بجمهورية تشاد يعود إلى عام 1966م حينما انطلقت أول معارضة تشادية تحت مسمى جبهة التحرير الوطني التشادي (فرولينا) من ولاية جنوب دارفور نيالا، وفي السبعينات عندما انقسم (فرولينا) بسبب النزاع الداخلي إلى مجموعتين الأول بقيادة كوكوني واداي والثاني بقيادة حسين حبري، وبعد أن استلم كوكوني واداي السلطة في تشاد بدعم من ليبيا، هرب حسين حبري إلى السودان وتلقى الدعم رسميًّا وشعبيًّا من السودان بسبب التقاطعات الاجتماعية، حيث كان مرافقي حسين حبري ومن بينهم إدريس ديبي ينتمون إلى مجموعة الزغاوي التي تمتد تواجدها بين السودان وتشاد، إلى أن استولى حسين حبري على السلطة في عام 1982م مدعومًا من السودان. غير أن ومع مضي بضعة سنين (في نهاية الثمانينيات) دبٌ خلافًا بين حسين حبري ورفاقه الذي اتهمهم بمحاولة انقلاب مما قاده إلى تسخير جبروته العسكري لملاحقتهم، الأمر الذي قضى بهروب إدريس ديبي، مرة أخرى، إلى السودان الذي احتضنه أيضًا رسميًا وشعبيًا، إلى أن عاد مستوليًا على السلطة في عام 1990م.

 وكان إدريس ديبي حليفًا لنظام عمر البشير الذي دعمه وأوصله إلى السلطة للدرجة التي امتنع، في أول الأمر، عن دعم المعارضة في السودان التي تقدمت إليه بطلب دعم عند اندلاع الحرب في دارفور، بل واعتقل ديبي اثنين من زعماء المعارضة -الحركات المسلحة في دارفور لاحقاً- وسلمهما إلى الحكومة السودانية. غير أنّ موقف تشاد لم يصمد طويلًا أمام الروابط الاجتماعية التي تجمع ديبي مع جزء من الحركات المسلحة، حتى بدأ بعض من عناصر نظامه بدعم الحركات المسلحة في دارفور، الأمر الذي أفقده ثقة نظام عمر البشير، والذي قام ـ وقتئذ – بدعم المعارضة التشادية على الفور، بهدف زعزعة استقرار نظام دبي في تشاد الذي تعاون ودعم الحركات المسلحة في السودان ضد نظام عمر البشير. ولم يتوقف دعم السودان -عمر البشير- على مجرد دعم المعارضة التشادية فحسب بل سعى السودان إلى توحيد المعارضة التشادية (FUCD) حتى تتمكن من الإطاحة بحكومة إدريس ديبي، وكان نافع علي نافع وأحمد هارون وجعفر عبدالحكم، أبرز الشخصيات في حكومة عمر البشير الذين كانوا على اتصال وتنسيق مع المعارضة التشادية. فيما قام إدريس ديبي بدوره، بتعزيز دعمه للحركات المسلحة في دارفور خاصة حركتي د. خليل إبراهيم ومني أركو مناوي. وهكذا إلى أن أضطر الطرفين أخيرًا إلى توقيع اتفاقية الأول عام 2006م وافقا على عدم دعم معارضة بعضهما البعض وقاما بتطبيع علاقاتهما الدبلوماسية باعتبارهما بلدين جارين وصديقين. غير أن وبعد شهور قليلة مضت، انهارت الاتفاقية بسبب عدم الالتزام بها من الجانبين، وتم تجديدها في عام 2007م ومضى إدريس ديبي من بعدها إلى الدخول في مفاوضات مع أبرز معارضيه المدعومين من السودان، كما وقع الطرفين السودان وتشاد اتفاقية ثالثة في عام 2008م وحملت الاتفاقية الثالثة ذات البنود مع نيلها احترام أكبر هذه المرة من الجانبين.

 هذا، وبالعودة إلى إشارة بيان خارجية جمهورية تشاد التي تفيد بأن السودان يدعم، في الوقت الحاضر، جماعات إرهابية في تشاد على خلفية اتهام السودان بدعم جمهورية تشاد للدعم السريع “زعزعة متبادلة”، وبالنظر إلى هذا التاريخ المعقد والمليئ بالتدخلات من الجانبين، يبقى تكذيب هذه التهم قد يكون أصعب من إثباتها. وعلى الأرجح سيستمر دعم الجماعات المسلحة بين دول المنطقة “الزعزعة المتبادلة” ما بقيت المصادر التي تغذيه قائمة، والتي هي “الطبيعة غير الديمقراطية للحكومات وما أفرزته هذه الحكومات من نظم حكم في الدول ميالة إلى العنف، والوفرة الواسعة للأسلحة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى