محمد علي أحمد عبد الكريم “مهلة”
(١) هذا البلد السودان به مفارقات عجيبة، إذ أن حق الانتماء الوطني فيه يتجاوز وجودك الشخصي الفردي، مصادَر عند اشتداد الصراع على امتياز السلطة والثروة، فالأفندية الذين ورثوا سلطتهم من المستعمر عملوا على صياغة سياسات وقوانين تفرق المواطنين على أسس اجتماعية ونوعية، والمفارقة المضحكة المبكية هي سطو بعض الأفندية على مصطلح ومفهوم “السوداني” والذي كان يقصد به أولئك الأفراد المنحدرين من المجتمعات التي تشكلت من واقع علاقات الرق. فالسودانيون حينها تعني المحررين من الرق. كان بعض السودانيين الآخرين خارج هذا المجتمع لا يقبلون بمناداتهم بسوداني، ويقولون إنهم لهم قبائل ويفضلون مناداتهم بقبائلهم.
(٢) ولكن! عندما أصبحت هنالك وظائف قيادية عليا في الدولة، وهنالك وعي بامتياز السلطة والثروة، قام بعض هؤلاء الأفندية بتفصيل سياسات وقوانين متحيزة لاحتكار حق الانتماء وحق الوصف بالسودانية. وفي تقديري أن أول مواجهتين لصراع الامتيازات كانت من مجتمعين، الأول؛ هو مجتمع الأحرار القادمين من علاقات الرق، والثاني؛ مجتمع العمال الزراعيين بالمشاريع الزراعية المروية.
(٣) لقد كانت مواجهات مجتمع المتحررين من الرق ظاهرة للعيان في موضوع المؤسسة العسكرية (قوة دفاع السودان) وتسريح بعض الكتائب السودانية، وأيضًا في بناء المؤسسات السياسية والثقافية بالمدن. فكانت الكتلة السوداء، وسجالات ومرافعات أبناء عشري صديق، وبناء المدن والمدنية – والديوم تحكي كل شيء.
(٤) أما مجتمع العمال الزراعيين فكانت ثاني المواجهات حيث تم إشهار سيف التغّريب والدمغ بالأجنبية بعد تلك الفترة الحرجة من تاريخ تطور مشروع الجزيرة، وهي فترة نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات والتي كانت فترة الكساد العظيم الذي وصلت فيه أسعار القطن إلى أدنى مستوى لها. فتهرب المزارعين عن مواصلة زراعة القطن لمصانع “لانكشير” البريطانية. وحينها بدأت عملية تمليك مجتمعات العمال الزراعيين للحواشات حتى بلغوا الثلاثة ألف، ومنها بدأ صراع امتياز التمليك والتوظيف، فبدأت النخبة الوارثة تفصيل سياسات وقوانين حرمان مجتمعات العمال الزراعيين من هذه الحقوق، فأصدر مكي عباس أول مدير سوداني لمشروع الجزيرة قرارين من إدارة المشروع: الأول هو عدم توريث ملكيات الحواشات لأبناء أولئك الذين مُلِكوا لها في السابق وهم من مجتمعات العمال الزراعيين، والقرار الثاني؛ هو إلا يوظفوا بوظيفة بها راتب بالمشروع. ومنها تخمرت فكرة صياغة القانون العنصري للجنسية السودانية. والمفارقة أن تعديل قانون الجنسية العنصري لم يرتبط بانصاف هؤلاء العمال الزراعيين. ولكنه كان في سياق آخر ويا للعجب.
(٥) حادثة السواكنية.. وبداية تعديل قانون الجنسية السودانية
* تاريخنا حافل بنماذج لممارسات قانونية وإدارية وسياسية حزبية تعمل على (حرمان أفراد ومجموعات) من حق الانتماء السوداني عبر صياغات قانونية لقانون الجنسية السوداني، وممارسات إدارية تصادر الحقوق كالتملك والتوظيف، ومواقف لمكايدات سياسية وكسب حزبي رخيص يلازم الحملات الانتخابية. نجد جزءً من ذلك يوثقه المؤلفان أحمد إبراهيم أبو شوك والفاتح عبدالله عبد السلام في كتابهما – الانتخابات البرلمانية في السودان – عند تناولهما لتأثير قضية الجنسية السودانية عبر المكايدات السياسية والكسب الحزبي الرخيص في مسار العملية الانتخابية في مراحل الطعون في قوائم الناخبين والمرشحين في انتخابات ١٩٥٨م.
* فيما عرفت بحادثة (السواكنية) أصدر قاضي محكمة بورتسودان الجزئية حكما يقضي بعدم أهلية ترشيح الأستاذ (محمد عبد الجواد) والأستاذ (علي بازرعة) وآخرين.. وعلل ذلك الحكم بقوله إنه مقتنع بأن والد كل من عبدالجواد وبازرعة قد حضرا إلى السودان قبل المهدية، ولكن القانون يقول: إن الذين حضروا قبل المهدية لا يعتبرون سودانيين إلا إذا قدموا وثيقة قانونية من البلد الذي هاجروا منه تثبت أنهم لم تعد لهم صلة بهذا البلد. وأن قانون الجنسية السودانية للعام ١٩٤٨م يعرف السوداني بأنه: الشخص الذي استوطن في السودان منذ ٣١ ديسمبر ١٨٩٧م، وبذلك صنف معظم المهاجرين الذين استقروا في السودان بعد ذلك التاريخ بأنهم غير سودانيين.
* المحكمة العليا ألغت الحكم الصادر من محكمة بورتسودان الجزئية وسمحت للترشح لعبد الجواد وبازرعة والآخرين.
* تداركا لتلك المشكلة من ناحية قانونية وسياسية تم تعديل قانون الجنسية السودانية في يوليو ١٩٥٧م، وبموجب ذلك التعديل أضحى كل من وُلد في السودان ووالده ولد في السودان أهلا للحصول على الجنسية السودانية.
* قال المحامي مبارك زروق : (إنني شخصيا أتمنى لو أن هذه الحوادث المؤسفة لم تقع إطلاقا وفي بورتسودان بالذات وبين السواكنية أولئك المواطنون الوطنيون الذين عرفناهم بإحساسهم سودانيين من صميم هذا السودان وعرفناهم، بل عرف السودان أجمع مشاركتهم في الحركة الوطنية).
(٦) وإلى الآن نلاحظ استمرار نزعة احتكار حق الانتماء ولكنها ضد مجتمعات أخرى طالما اقتربت من امتياز السلطة والثروة. والمبكي أن هذه السلطة وامتيازاتها طوال تاريخها موظفة في عمليات الهدم، لا عمليات البناء.
(٧) لقد آن الأوان لبناء دولة جديدة تستمد وجودها من مواطنة المواطنين وتبني قوانينها وسياساتها وفقا لذلك، لتكون حقا دولة المواطنة المتساوية.