رأيسيف الدولة حمدناالله

ميزان العدالة في محاكمة مدير التلفزيون السابق

 
سيف الدولة حمدناالله
لا يستطيع القضاء أن يدفع بعدم مسئوليته عن المساس الذي أصابه من تشكيك الرأي العام حول صحة وعدالة الحكم الذي صدر ببراءة مدير التلفزيون السابق محمد حاتم سليمان بخلاف ما توصل إليه الناس من قناعة حول مسئولية المتهم عن التصرف في المال العام بالمخالفة للقانون من واقع ما نُشِر بالصحف من وقائع ومعلومات، وبالحد الذي جعل هناك من يدّعي – بالحق أو بالباطل – بأن حكم البراءة قد سُلّم للقاضي داخل مظروف مُغلق قبل لحظات من بداية جلسة النطق بالحكم.
 
هذا المساس جلبه القضاء على نفسه، ذلك أن القاضي الذي أعلن براءة المتهم، فعل ذلك في كلمتين بتلاوة منطوق الحكم دون نشر الحيثيات التي إستندت إليها المحكمة في الوصول للقرار، وفي مثل هذه القضايا التي تحظى بإهتمام عالٍ من الرأي العام (High profile cases)، كان الواجب أن يُنشر الحكم بأسبابه حتى يقف الرأي العام على أساس وأسانيد البراءة، فالقضايا التي تتصل بالحق العام يُعتبر الشعب خصماً في الدعوى بإعتبار أنه – في هذه الحالة – صاحب المال الذي وقعت بشأنه الجريمة، وهذا هو السبب في أن كثير من التشريعات الحديثة تعهد بمهمة الفصل في هذا النوع من القضايا لأشخاص عاديين من أفراد الشعب يتم إختيارهم بطريقة عشوائية (المُحلّفين) تكون لهم الكلمة الفصل في إدانة أو براءة المتهم، وفي بعض التشريعات، يكون لمحلّفين فوق ذلك سلطة توقيع العقوبة التي يستحقها المتهم، وفي الدول التي تأخذ بهذا النظام – من بينها الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا ..إلخ – تقتصر مهمة القاضي على إدارة جلسات المحاكمة وتبصير المُحلّفين برأي القانون في المسائل التي تُطرح أثناء سير المحاكمة، مثل قبول البينة ومنع الأسئلة التي يحظرها القانون على الشاهد ..إلخ.
 
في محاكمة محمد حاتم سليمان بالذات، ليس سهلاً على الشعب أن يفهم كيف حصل المتهم على البراءة بعد أن إعترف المتهم بنفسه أمام المحكمة بقيامه بالتصرف في المال العام بطريقة مخالفة للضوابط التي وضعتها القوانين واللوائح، ومبلغ علم الشعب أن المتهم إعتمد في دفاعه على نقطة واحدة (نُفنِّدها لاحقاً) فحواها أن وزير المالية (بدرالدين محمود) منحه الإذن والموافقة على القيام بتلك التصرفات، وقدّم خطاباً بتوقيع الوزير بهذا المعنى، قبل أن تستدعي المحكمة الوزير للإدلاء بشهادته أمامها عقب الطعن بتزوير الخطاب، وشهد الوزير بأنه صاحب التوقيع وأنه بالفعل منح موافقته للمتهم على تجاوز اللوائح والقوانين.
 
شهادة الوزير – كما سبق لنا التوضيح في مقال سابق – لا قيمة لها في القانون، والصحيح أنها تجعله شريكاً للمتهم في الجريمة، ذلك أن موافقة الوزير لا تُضفي مشروعية على تصرفات المتهم التي تُخالِف لقانون، فالوزير نفسه لا يزيد عن كونه موظف عام ولا يملك هو نفسه سلطة تجاوز القانون الذي يحكم التصرف في المال العام أو يمنح غيره سلطة بذلك. ثم، وهم المهم، أن بدرالدين محمود لم يكن وزيراً للمالية وقت حدوث هذه المخالفات بحسب ما ظهر من التواريخ التي أرتُكِبت فيها الجريمة.
 
من المعروف في القضايا التي تكون محل إهتمام الرأي العام، أن تدابير تطبيق معايير العدالة تكون بأكثر مما يحدث في القضايا العادية، ففي محاكمة المطرب “مايكل جاكسون” بتهمة الإغتصاب التي جرت وقائعها قبل سنوات تم حجز “المُحلفين” داخل غرف بأحد الفنادق طوال فترة المحاكمة ومُنِعوا من مشاهدة التلفزيون والإطلاع على الصحف، والهدف من مثل هذه الترتيبات – بطبيعة الحال – هو ضمان عدم تأثير الرأي العام على سير المحاكمة بما يؤدي إلى إدانة المتهم ظلماً أو، في أحوال أخرى، إلى إفلاته من العقوبة نتيجة مؤثرات خارجية.
 
والسبب في عمل مثل هذه الترتيبات يرجع إلى أن القضاة والمحلّفين وأعضاء النيابة مثل غيرهم من المواطنين يتأثرون بما يدور في المجتمع من حديث حول القضايا التي تُعرض عليهم، وهو أمر حدث وسيظل يحدث ما دام القضاة وأعضاء النيابة يحملون الخصائص البشرية، ففي محاكمة أحد المتهمين في قضية إغتصاب وقتل طفلة حدثت وقائعها بالخرطوم قبل سنوات، أخذت “الهوشة” بقاضي محكمة جنايات الخرطوم شمال – تحت ضغط الرأي العام – لأن يُصدر حكماً على المتهم مُخالفاً للقانون جمع فيه بين عقوبة الإعدام شنقاً حتى الموت مع الجلد (1000) جلدة قال أنها تُنفّذ على دفعات بواقع (100) جلدة في كل مرة، وقام القاضي بتنفيذ الدفعة الأولى من الجلد فور صدور الحكم دون أن يمنح المتهم فرصة إستئنافه، وقد ألغت فيما بعد محكمة الإستئناف حكم الجلد لعدم جواز الجمع بين عقوبة الإعدام والعقوبات الأخرى (فيما عدا في حالة مصادرة الأموال التي حددها القانون في الجرائم ضد أمن الدولة).
 
التأثير على العدالة في قضية مدير التلفزيون السابق – بما سيجعل منها سابقة يسجلها التاريخ – جاء من ناحيتين، الرأي العام من جهة وجهاز الدولة (السلطة التنفيذية) من الأخرى، فقد ظهرت آثار التأثير على سير القضية منذ لحظة القبض على المتهم وما صاحب ذلك من إنتقال كبار المسئولين في الدولة إلى مركز الشرطة بغرض مؤازرته والإفراج عنه بعد ساعات قليلة من القبض عليه بالضمان الشخصي وبدون كفالة مالية وقبل مرور وقت كافٍ لإستكمال التحريات في مثل هذا النوع من القضايا التي تستلزم فحص المستندات وسماع رد المتهم عليها ومواجهته بالشهود ..إلخ.
 
بلغ تأثير الجهاز التنفيذي أقصى مداه بإظهار رئيس الجمهورية لموقفه من عدم رضائه عن إختصام المتهم وتقديمه للعدالة، وقد وضح ذلك من طريقة وتوقيت القرار الذي أصدره رئيس الجمهورية بعزل وكيل وزارة الإعلام بدعوى أنه كان وراء تحريك إجراءات البلاغ ضد المتهم وما تبِع ذلك من قيام وزارة العدل بتقديم المستشار القانوني بوزارة الإعلام لمجلس محاسبة بنفس السبب وإنتهى بفصله هو الآخر من العمل.
 
ما يؤسف له، أن تأثير جهاز الدولة على هذه القضية لا يزال مستمراً وحتى بعد صدور الحكم، ذلك أن الحكم ببراءة المتهم محمد حاتم سليمان ليس نهائياً، ولا تزال أمامه – نظرياً – مرحلتي تقاضي أمام محكمة الإستئناف والمحكمة العليا، والحال كذلك، فإن قيام مسئولين كبار في قمة السلطة مثل رئيس جهاز الأمن ووالي الخرطوم بتأييد حكم براءة المتهم في العلن وعلى النحو الذي ظهر في الصور الفوتوغرافية التي نُشرت بمواقع التواصل الإجتماعي التي ظهر فيها كبار رجال الحكم وهم يهلّلون بأيدي تُشير بعلامة النصر عند زيارتهم للمتهم بغرض تهنئته على البراءة، مثل هذا التصرف يُعتبر تأثيراً على مجرى قضية لا تزال قيد النظر أمام القضاء، فالصفة التي هلّلوا بها للحكم هي مركزهم القانوني في الجهاز التنفيذي للدولة لا لكون المتهم من الأقرباء أو أنه إبن الجيران.
 
تبقّى القول، أننا لا نُريد أن يكون التأثير على العدالة سبباً في إدانة مدير التلفزيون السابق بذات القدر الذي لا يؤدي إلى براءته، فقديماً قيل أن كثيراً من القضاة ظلموا لكي لا يُقال أنهم لم يعدلوا، ومن حق المتهم محمد حاتم سليمان أن تُوفّر له محاكمة عادلة بعيداً عن تأثير أي من الطرفين (الرأي العام وجهاز الدولة)، يكون الفيصل فيها هو ما يُطرح من بينات أمام القضاء، وأن يأتي الحكم مُتفقاً مع صحيح القانون.
 
سوف تضع الأيام القادمة وزارة العدل والنيابة في الإختبار، بين أن تقوم بواجبها في إستئناف الحكم ببراءة المتهم والطعن فيه أمام محكمة الإستئناف وهو الدور الذي ينيط به القانون سلطة النيابة، أو أنها تقع تحت تأثير الرسالة التي أطلقتها الأيدي القوية التي هلّلت للبراءة !!
 
saifuldawlah@hotmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى