تمر الذكرى الثانية للثورة ديسمبر المجيدة، والبلاد تشهد عددا من التحديات والصعوبات للعبور إلى بر الأمان، والجهود التي تبذلها الحكومة الانتقالية في كثير من وجوهها تعبر عن بطء ظاهر وتعقيدات كثيرة، خاصة في ما يلي معاش الناس. إزاء ذلك، فمن الصعب التكهن بما ستنتهي إليه المرحلة الانتقالية، لكن من المهم والضروري إدراك أن هذه المرحلة الانتقالية مرحلةً مصيرية، وأن نجاحها هو الذي سينعكس على المراحل التي تليها. لا شيء يبدو سهلا يبدو في هذه المرحلة.
نتائج مملوسة
وضعت الحكومة الانتقالية ستة أشهر لتحقيق السلام ووقف الحرب في دارفور، والمنطقتين “النيل الأزرق وجنوب كردفان”، لكن ثمة تحديات واجهت هذا الملف، فبعد عام توصلت الفرقاء؛ الحكومة والجبهة الثورية السودانية، إلى اتفاق سلام بينهما في جوبا، بوساطة من حكومة جنوب السودان، لكنه يعتبر – بحسب مراقبين – سلاما منقوصًا، لأنه لم يشمل الحركة الشعبية – شمال برئاسة عبد العزيز الحلو، وحركة جيش تحرير السودان بزعامة عبد الواحد محمد نور، وهذا يتطلب من الحكومة بذل جهد إضافي لتحقيق السلام الشامل وهو ما لا تبدو -على المدى القصير- أي إمكانية لتقدم فيه.
صبر وعزم
القيادي بالحرية والتغيير عبد المطلب عطية، يعتبر أن السلام من أكبر التحديات التي عبرتها الحكومة بصبر وعزم، بجانب تحدي إعادة هيكلة مؤسسات الدولة وهندستها قانونيا والآن نواجه تحدي استكمال هياكل ومؤسسات الانتقال وأهمها المجلس التشريعي. واعتبر عطية أن أكبر التحديات التي عبرها السودان هو الخروج من ما أسماه تركة الذل والهوان، بشطب دولتنا من قائمة الدول الراعية للإرهاب. ويرى أنه برغم عظمة التحديات تتسع فرص الانتقال باكتساب المزيد من الخبرات في التعاطي مع الواقع المعقد يوما بعد يوم وكذلك يتلاشى عشم العودة للشمولية. وأكد أن كل هذة مؤشرات تعزز فرص الانتقال نحو الديمقراطية.
عقبة الإرهاب
وشطبت الولايات المتحدة اسم السودان رسميا من قائمة الدول التي تعدها راعية للإرهاب، يوم 14 ديسمبر الحالي. وقررت واشنطن اتخاذ تلك الخطوة بعد موافقة السودان على دفع أكثر من 335 مليون دولار لحساب خاص بضحايا الإرهاب وعائلاتهم، ووافق السودان أيضا على بدء تطبيع العلاقات مع إسرائيل، على الرغم من قلق المراقبين من أن ذلك قد يكون صعب التنفيذ، إذ يوجد دعم شعبي قوي للفلسطينيين في السودان.
محك حقيقي
ويرى خبراء اقتصاديون أن العوامل الاقتصادية لعبت دورا مهما في إسقاط حكومة الإنقاذ، بعد أن لقي الرئيس المعزول عمر البشير، وحزبه صفعات اقتصادية قاسية أدت لترنح نظامه، تمثلت في انعدام السيولة بالبنوك والمصارف وتدهور الجنية أمام العملة الأجنبية بجانب شح في المحروقات والخبز، ما أدى لتكدس المئات بشكل يومي أمام البنوك والمخابز ومحطات الوقود، وكانت أولى التظاهرات التي خرجت في ديسمبر 2018 بسبب انعدام الخبز في ولايات النيل الأزرق وسنار ونهر النيل. ومع دخول الثورة عامها الثاني فالوضع الاقتصادي في عهد الحكومة الانتقالية زاد سوءا حيث وصل التضخم (254.34%) لشهر نوفمبر الماضي، مما انعكس سلبا على الأسعار التي ارتفعت بصورة جنونية، بجانب انعدام الخبز والدواء وارتفاع أسعار الخدمات العامة التي تقدمها الدولة. هذا الوضع الكارثي جعل الشارع السوداني في حال مطالبة دائمة بتحسين المعاش، إذ يعتبر ملف الاقتصاد الحلقة الأضعف لحكومة الثورة.
يقول الخبير الاقتصادي محمد الناير، إن الاقتصاد يمثل محكا حقيقيا أمام عبور الحكومة الانتقالية لبر الأمان.
شبح دولة
ويبرر عبد المطلب، فشل الحكومة في قضايا معاش قائلا: “إن النظام البائد أورثنا شبح دولة تعايش الانهيار اقتصاديا وسياسيا، والتحلل قانونيا بفعل الفوضى والفساد. ولأن عملية التغيير لم تطل غير القيادة البارزة لذلك النظام وبالتالي فإن عناصره الممسكين بكل مفاصل الدولة الأمن والجيش والقضاء والنيابة وكل المؤسسات الاستراتيجية كانوا أكبر العقبات والمتاربس في خط التحول والانتقال”.
وباستدعاء تجارب الانتقال الديمقراطي في كل العالم – بحسب عبد المطلب – نجد أنها غالبت أكبر المطبات ومرت بأصعب التحديات، لكن الشعوب عبرت بالصبر والوعي والمثابرة وهذا سلاح شعبنا الآن في مواجهة تحديات الانتقال.
تجارب الماضي
ويرى المحل السياسي محي الدين محمد محي الدين، في حديثه لـ(الجماهير)، أن أبرز التحديات تتمثل في إصرار القوى السياسية على تجاوز تجارب الماضي في مسألة الفترة الانتقالية، فهم من جهة يعادون المكون العسكري ويتناسون دوره في إحداث التغيير، ويعتقدون أن الدعم الجماهيري بديل عن التفويض الديمقراطي المستند إلى شرعية الانتخابات، وهو تصور جعلهم يصرون على استبعاد كل من كان يناصب الإنقاذ العداء ولم يوقع على ميثاق الحرية والتغيير، وأمر آخر – يقول محي الدين – هو أن الميثاق نفسه لم يكن دقيقا ومفصلا بما يكفي لمعالجة التباينات بين القوى الموقعة عليه وهو ما قاد إلى بروز تجاذبات أضعفت تماسك التحالف. وأضاف أن الأهم هو ضعف الوعي بتقاطعات المصالح ودور المحاور في توجيه فترة الانتقال وفق تصوراتها والتي لا تتطابق مع رؤية القوى السياسية الحاكمة.
هذه العوامل مع تزايد الأزمات الاقتصادية وضعف استجابة مؤسسات الدولة معها، أسهمت – وفقا لمحي الدين – في أضعاف موقفها أمام الرأي العام وهو ما قاد إلى تشرذم الحاضنة السياسية للحكومة ووسم أدائها بالارتباك وأسهم في تعميق الخلافات بينها وحرمها من دعم الشعب المشتت بين مكونات مختلفة، وكذلك زاد من حدة الاستقطاب بينها والمكون العسكري الذي تمدد على حسابها مستغلا ضعفها وعدم وعيها بالتصورات البرغماتية التي فرضتها ظروف الانتقال المعقدة بتقاطع مصالح الفاعلين الداخليين والإقليميين.
عوامل خارجية
ويشير محي الدين، في معرض حديثه لـ(الجماهير) إلى أن العوامل الخارجية لم تنته لأنها لا تتصل بالعلاقة مع أمريكا فقط، ولكن تتأثر بالتنفس الدولي على البحر الأحمر ورغبة روسيا في تعزيز وجودها في أفريقيا عبر بوابة السودان. ولعل الحديث عن مفاوضات عسكرية مع أمريكا ورغبتها في وجود قوات لها على أرض السودان يمكن أن تؤخذ دليلا على هذا التنافس الذي يمثل تحديا للسياسة الخارجية للبلاد وهناك نقطة أخرى هي التعاون الاقتصادي وتوقف استثمارات الصين في النفط وما تشكله ديونها من عبء والحديث عن إقبال شركات أمريكية للاستثمار فيه مما يجعل السودان جزءا من مسارح الحرب الاقتصادية بين أمريكا والتنين الصيني.
دواعي التغيير
الكثير من المهتمين بالشأن العام يتحدثون عن تحديات وعقبات تواجه الانتقال في البلاد، دون الرجوع للأسباب الرئيسة التي دفعت الثوار للخروج للشارع وإسقاط حكومة البشير، لكن لإهميتها يستدعيها مرة أخرى، عضو لجنة المركزية للحرية والتغيير عبد المطلب عطية، في حديثه لـ(الجماهير) قائلا: “وصلت البلاد مرحلة الانسداد السياسي التام والانهيار الاقتصادي وفقد النظام البائد كل حيل المباصرة وفي المقابل بدأ العزم بضرورة تغييره يزداد متانة عند الشباب، وتجذر الوعي بالتغيير والثورة اجتماعيا في الأفراح والأتراح وفي الاسر والبيوت وأصبحت شعارات الثورة أنشودة يتغنى بها الأطفال في الميادين والشوارع وزقاقات القرى الأحياء، وتحول الحلم بالثورة من حالة الخيال لليقين التام، ولأجل ذلك خرج كل الشعب للشوارع مرددا: (حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب)، وسقط جبروت الطاغية أمام عظم وكبرياء الثورة، وقد جاء الانتصار موشحا بالأمل الكبير في التغيير”، وقال: “لكن بنظرة واقعية فالانتقال من نظام شمولي تمكن في كل مفاصل الدولة لثلاثين عام ليس بالأمر اليسير خاصة وأن جيل السياسيين الذي برز في مرحلة النضال أغلبهم يفتقر لخبرة مباصرة شؤون الحكم بفعل الإقصاء المرتب من النظام البائد لأغلب الشرفاء من أبناء شعبنا”.
انشقاقات الثورة
بينما يرى المحلل السياسي يوسف محمد العركي، لـ(الجماهير) أولا الفترة الانتقالية لم تكن فترة سلسة فمازال التجاذب والتشاكس بين المكون العسكري والمدني قائما طوال الفترة وأكبر خطأ وقع فيه الجيش هو اعترافه بأن قوى الحرية والتغيير هي الممثل للشعب. وحدثت تجاذبات أدت لخروج بعض المكونات منها وحتى تجمع المهنيين لم يسلم من الانشقاق فهذا يدل بالضرورة على عدم وجود فكرة مركزية لمرحلة البناء فقد انصب جل جهدهم على الهدم.
ويتعبر العركي أن أبرز التحديات حاليا هو دخول الحركات المسلحة في المشهد السياسي بعد توقيع اتفاق جوبا، والذي لا تريده بعض المكونات المدنية لأنه يخصم من نصيبها في كيكة السلطة، ونلحظ أن المواطن هو الغائب عن اهتمامات الحكومة، فلم تحل مشكلاته، كذلك غياب المحكمة الدستورية جعل الكثير من القضايا معلقة وما وقعت فيه لجنة تفكيك التمكين من أخطاء جسام جعلت المواطن العادي لا يلقي بالا لما تقوم به حتى إنها قد وضعت نفسها في موضع الاتهام من خلال تسجيلات رئيس منظمة زيرو فساد الذي كان على توافق معهم ولا ندري ما الذي حدث؟.
يضيف العركي قائلا: “عموما وباختصار المشكلة في التحول والانتقال الديموقراطي تحتاج لإرادة صادقة من كل المكونات وهذا الشيء غير موجود حاليا إضافة إلى مشكلة بنيوية في الدولة السودانية منذ الخمسينات وهي أن بناء الدولة قد سبق بناء الأمة فكان كل الناتج خداجا، وقال إن الحل في نظري الدعوة لمؤتمر جامع لكل السودانيين دون استثناء ومصالحة وطنية وتوافق من أجل السودان والمواطن وما عدا ذلك ربما لا نجد سودانا حتى.
شعرة معاوية
واحدة من التحديات التي ربما تعيق علمية الانتقال، هي علاقة شركاء الحكم فيما بينهم فهي علاقة بالغة التعقيد وذات خصوصية، وتواجه جملة تعقيدات متمثلة في كيفية إحكام التنسيق،وتجاوز مصطلح عسكر ومدنية وتشاكسات الحرية والتغيير والجبهة الثورية ،وخاصة أن العلاقات المكونات السياسية شهدت حالة من الشد والجذب في تكوين مجلس الشركاء:
واقع اليوم الذي ورثته الثورة السودانية يحتاج إلى إعادة تأسيس للصيغة الوطنية، ولوعي جديد بالمواطنة، ولممارسة حزبية وطنية مشتركة للأحزاب عبر الانخراط في عمل عام مشترك من أجل إنجاح مرحلة الانتقال الديمقراطي تضع السودان على سكة الاستقرار السياسي الراسخ، وتأسيس دولة وطنية حديثة وظيفتها الأساسية تحقيق النهوض والتنمية الاقتصادية والتغيير الاجتماعي وكفالة الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية للمواطنين على أساس قاعدة حقوق المواطنة المتساوية لجميع السودانين دون تمييز ودون استبعاد او إقصاء أي مجموعة ثقافية أو دينية.