الخرطوم: الجماهير
ليس هناك معطيات استراتيجية تخص السودان كدولة، تدعم مشاركته في الحرب التي تشنها السعودية على اليمن، لكن ثمة أخرى ترتبط بالحكومة السودانية؛ دفعتها لإرسال مئات الجنود إلى هناك، وقبول إملاءات سعودية، رضخت لها متعمدة، أو دون أن تعي تأثير ذلك، على راهن ومستقبل السودان كدولة.
إن أي قراءة لتلك المشاركة أو للعلاقة السودانية-السعودية برمتها مؤخرا، تكشف اختلال المعطيات التي تقوم عليها. إذ تبدو السعودية مالكة لزمام المبادرة، وأوراق القوة فيها. لكن الحقيقية أن الأشياء ليست هي الأشياء..!
متى ما وضعنا فرضية أساسية للحكم على العلاقة المختلة بين البلدين فإنها تنطلق من أن ضعف الحكومة السودانية، وليس السودان كبلد، هو من وضع الخرطوم تحت الطاعة التامة للوصاية والأوامر السعودية.
أما سوء تقدير المواقف وإدارة الملفات الخارجية، والأوضاع الاقتصادية المتضعضعة، بفعل الفساد، وسيادة الرؤية الفردية الجشعة في اتخاذ القرارات المصيرية، معطيات جعلت السودان دولة دائرة في فلك السياسة السعودية، وصنعت من الحكومة السودانية، جسدا لا حراك به إلا بمقدار ما أمرت المملكة. وغير قادرة على إدراك صلابة الأرض التي تقف عليها ومصادر القوة، وآليات توظيفها سياسيا ودبلوماسيا واقتصاديا، وهو أمر بديهي في أعراف السياسة.
الخرطوم أرسلت جيشها طمعاً في الخروج من نفق الضائقة الاقتصادية و رفع العقوبات الأمريكية
ظهر أن الحكومة السودانية لم تدرك طبيعة السودان الجيوسياسية، التي تحصنه ضد أي وسائل ضغط سعودي. وتجعل تحركاته السياسية والدبلوماسية، حاكمة للقرار السياسي السعودي ومؤثرة عليه، كما أنها تجهل بنحو كبير الأساس الذي يقوم عليه المشهد السياسي الهش المحيط بالمملكة السعودية.
خلال السنوات الخمس الماضية، فقدت السعودية معظم مزوديها من الخضروات والأغذية. غرقت سوريا – المزود الأكبر للأسواق السعودية بالمنتجات الزراعية- في أتون حرب ماحقة. وأغلقت فضاء النقل البري من تركيا والدول المتاخمة لها.
كذلك مثلت الأزمات الاقتصاية والسياسة التي ضربت مصر ا، مصدر شُحٍّ بالنسبة للملكة. وأدى ذلك إلى ارتفاع فاتورة استيراد الغذاء بشكل كبير في السعودية. وأضحى الخيار البديل للملكة دول بعيدة، ومرتفعة التكلفة.
كانت هذا الصورة حقيقية، أخبر عنها السعوديون السودانين، وفي الحقيقة لم يكن الإخبار بها سوى مناورة سعودية لابتزاز الخرطوم.
مستندة على هذه المعطيات، أعلنت السعودية أن السودان هو البديل للحصول على الغذاء، وأن جُلّ استثمارتها الخارجية ستذهب للأراضي السودانية. لم يكن الأمر منطقيا من نواح سياسية واستراتجية كثيرة، فالخرطوم تحكمها مجموعة إسلامية منبوذة للسعودية وحلفائها الأمريكيين، كما أن حجم الاستثمارت السعودية لم يتجاوز الملياري دولار حتى الآن، لكن الخرطوم وقعت في غرام الكذبة السعودية.
قد تبدو عملية رصد الكثير من القررات السياسية السعودية مؤخرا بشأن العلاقة مع السودان، كاشفة لبنية الخطاب الإعلامي والدبلوماسي التي تتحدث عن الاستثمار في السودان والتي انعكس ظلها فقط على تهيئة الملعب السياسي فقط.
كما أنه ومنذ عودة العلاقة بين البلدين، ظلت جملة القرارات السياسية السعودية تجاه السودان متراوحة بين الترغيب والترهيب، تستهدف الضغط على الحكومة السودانية، لتتوائم مع السياسة السعودية، وليس كما هو مفترض قررات لبناء علاقة أستراتيجية، تقوم على المصالح المتبادلة التي تحترم السيادة، والمقومات الحقيقة للسودان، كبلد مهم يحسب حسابه في الاستراتيجيات السعودية.
العمق الأمني
في كتابه انتقام الجغرافيا، يشرح لنا المؤلف روبرت.د كابلان ما الذي تخبرنا به الخرائط، ويؤكد كابلان أن ” موقع دولة ما على الخريطة هو أول ما يحددها، بصورة أكثر حتى من الفلسفة الحاكمة لها” ولأن الحكومة السودانية لم تقرأ في متون العلوم (الجيوسياسي)، تجاهلت أحد أخطر عوامل قوة السودان الجغرافية.
يشكل موقع السودان المحادد للسعودية، عاملا حاسما في كل الاستراتيجيات الجيوسياسية للمملكة. فالبلدان يشتركان في حدود بحرية يبلغ طولها نحو 670 كلم. ولطالما خشيت السعودية بشكل كبير من استفادة السودان من البحر استراتيجيا. وعزّز من ذلك تواجد البوارج البحرية الإيران على الشواطئ السودانية. وقد شهد الوجود الإيراني تناميا كبيرا وصل مرحلة توقيع الخرطوم وطهران على اتفاقيات بالأحرف الأولى، لبناء منصات صواريخ علي السواحل السودانية.
وخلق ذلك توجسا سعوديا بأئنا، وشكل عامل رئيسي في أن تقطع السعودية علاقتها بالسودان. فإيران غير عدائها العقدي مع المملكةـ طرف في الحرب التي تجري في اليمن وتدعم الحوثيين الذين تقاتلهم المملكة.
لم تستغل الحكومة السودانية لا موقعها من الخاصرة السعودية، ولا حلفها لعدو سعودي كأرضية تبني عليها أي موقف سياسي، أو تفاوضي مع السعودية، وعلى وجه الخصوص في اتخاذ قرار متوازن، يخرجه من حرج الخوض في المستنقع اليمني ، و يضعه في موقع ندية في علاقته بالسعودية.
بالمقابل فطنت السعودية لأهمية البحر الأحمر، ولموقع السوداني المحرج، ولم تكتف باحتواء السودان عبر الترهيب والترغيب، بل سارعت لقطع الطريق علي الخرطوم وعلي الوجود الإيراني هناك، وخلال عام غازلت الدول المجاورة للبحر الأحمر في الشاطي الأفريقي. ودعت كل رؤساء وقادة تلك الدول، لزيارة المملكة أول أيام الحرب.
لكن اللافت أن الخرطوم التي تملك الورقة الرابحة، القتها للملكة لقمة سائغة، إذ رشحت أنباء ومعلومات قوية مع بدايات الحرب، أن قادة سودانيون زودوا السعودية مفاتيح الوصول لعدد من القادة الأفريقيين، وسهّلوا زيارتهم للسعودية، ومن جهة أخري فتح بعضهم الطرق، لزيارة مسؤوليين سعوديين لـ:كينيا، وأريتريا، والصومال، وأثيوبيا، وجيبوتي.
حرب اليمن
لجاءت الرياض للخرطوم للمشاركة في هذه الحرب، لكن دون أن تخسر أي اتصالات دبلوماسية محمومة، كالتي بذلتها مع دول أخرى قبل أسبوعين سبقا وصول البشير الرياض. لم يكن أكثر المتفائلين يتنبأ بأن البشير سيوافق ولو مبدئيا على الحرب في اليمن. لكن الخرطوم أرسلت جيشها لهناك، يدفعها الطمع في الخروج من نفق الضائقة الاقتصادية، ووعود السعوديون لهم بفك القبضة الأمريكة عن رقابهم. أدهش القرار معظم المحللين السياسين، ومتخذي القرار في الخرطوم، حين لم يعبر حتى من تحت قبة البرلمان، كما فعلت دول أخرى دعيت للمشاركة في الحرب. بالبنسبة للمحلين: “فإن الخرطوم التي أعادت لتوها علاقتها مع الرياض، تريد أن تثبت جدية (تحوّل قبلتها) فكانت أول المشاركين بقوات برية”. لكن الخرطوم أمعنت في هذا النوع من الجدية، حين قطعت بعد أشهر قليلة علاقتها مع إيران، تبعا لقررا سعودي أيضا، صبيحة الهجوم على سفارتها في طهران.
الخرطوم تتلقى بضعة دولارات مقابل المشاركة و أخرى لقبر جنودها
طوال الفترة التي وصلت فيها القوات السودانية لليمن، كان القرار يجد رفضا تاما حتى من مسؤولين داخل الحكومة، لكن الصوت ظل مكتوما، حتى بدأت مكواكب النعوش الطائرة تصل الخرطوم. مؤخرا تعالت الاصوات لتنضم لصوت رئيس حزب الأمة الذي وصف المشاركة بأنها(مشاركة الدم مقابل الدفع).
وبحسب حديث أدلى به رئيس حركة (الإصلاح الآن) في السودان لموقع سودان تربيو: “فإن المشاركة لا تستند للدستور وهي مشاركة بلا أهداف سياسية محددة”. وأضاف غازي بعدا دينيا وأخلاقيا، إذ قال: ” فهمنا وفقهنا الحرب لا تكون الا دفاعاً. الله سبحانه وتعالى يأمر أمراً صريحا: “ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين”، فمن من أهل اليمن اعتدى علينا؟ إن كانت الإجابة لا أحد، إذن نحن معتدون والله لا يحب المعتدين”.
لم يعرف عن السودان مشاركات عسكرية في حروب خارجية من هذا النوع، فقد سبق وأن امتنع عن المشاركة في حرب تحرير الكويت. ويصف الخبير العسكري والضابط السابق في سلاح الطيران السوداني علي ميرغني ذلك بالغريب، ويقول: “هذه أولى مرة يشارك فيها السودان عسكريا خارج حدوده، دون غطاء من منظمة أو إجماع إقليمي ودولي”. ويعتبر ميرغني: “أن ذلك تم بطريقة خاطفة، ودون أي حسابات أو ثمن سياسي وإستراتيجي”.
لم يكن منظورا أن يشارك السودان في أي حرب خارجية، وأزماته الداخلية تعصف به وتشغله حروب داخلية في دارفور، وجنوبي كردفان، والنيل الازرق. في ذات الوقت الذي تلتهب حوالى الفي كيلومتر من حدوده مع دولة جنوب السودان، بحرب أهلية منذ انفصالها من السودان.
بحسب الصحفي والخبير الاستراتيجي الأستاذ عبد الله رزق. “فإن السودان يقع في منطقة مضطربة، تمتد من القرن الأفريقي، الى ساحل الاطلسي، تتفاقم أوضاعها بعد سقوط نظام القذافي”. ويرى رزق أنه “كان بالإمكان أن يعتذر السودان كما فعلت مصر، من المشاركة في حرب اليمن لاسباب عملية، هي استنفار قواه لحماية أمنه الوطني من المهددات الداخلية وتلك التي تقع على محيطه.
كانت الخرطوم قد برّرت في بيان مشاركتها في الحرب في اليمن بأنها: تناصر عودة الشرعية في اليمن وتقاتل من أجل الحفاظ على أمن الحرمين الشريفين” لكن قائد عسكري سابق يرى غير ذلك ويقول في حديث بعد أن طلب عدم ذكر اسمه (..):” إن هدف المشاركة والتسهيلات التي قدمتها الخرطوم للسعودية، ماديا بحتا، وهو شي أشبه بالارتزاق”. وأضاف: “الخرطوم تتلقى بضعة دولارات مقابل المشاركة. و(حفنة) أخرى مقابل قبر أو علاج الجنود الذين يشاركون فيها”.
تبديد قوة السياسة
منذ وصول الإسلاميون للحكم في السودان، واحتواء الخرطوم للسعودي أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، وحتى مقتله، وإلى الآن، تصنف المخابرات السعودية الحكومة السودانية خطرا يهدد عرشها ونظامها الملكي القائم. لكن الخيبات السعودية في ملفات: سوريا، العراق، اليمن، وأخرها أزمة قطر، جعلتها حريصة على اقتناء حلفاء، سواء عبر صداقات تظن أنها دائمة، أو تلك التي توصف بأنها تحالفات( قدر ظروفك) تدفعها للتقرب من الأعداء السابقين. وفي كل الأحوال لم يكن السودان بنظامه القائم أبدا ضمن استراتيجيات العلاقات الدائمة للملكة، طالما حكمه رئيس إسلامي، انتهك حرمات لم يسبق أن انتهكت، في تاريخ العلاقة بين البلدين. كما أنه ومنذ تاريخ طويل، ظلت العلاقة السعودية مع الخرطوم (ظرفية) تمر عبر القاهرة، أو تحكمها الرؤية المصرية. وكثيرا ما استخدمت السعودية السودان، ضد مصر بنحو ذرائعي. فكلما تمردت القاهرة على طاعة الرياض، مثلت الخرطوم مشهد الزوجة الثانية، التي تسارع الرياض لاحتواءها. وما أن تلبث العلاقات السعودية المصرية عائدة في (مسماها) حتى ينحدر دور الخرطوم. وتعود تتودد الرياض في انجاز وعودها التي قطعتها آوان (ليالي الحوجة).
وقد بدا ذلك متجسدا في ملف حلايب، أخر حلقات اثبات صدقية العلاقات السودانية السعودية، حيث وقعت السعودية اتفاق ترسيم حدودها مع مصر، لتعترف السعودية بأن الحدود المصرية أدنى خط عرض 22، وهو ما يجعل منطقة حلايب السودانية، مصرية باعتراف سعودي موثق بامتياز في سجلات الأمم المتحدة.
خلاصة القول، إن أبسط ماتوصف به العلاقة بين الرياض والخرطوم هي علاقة مشوّهة ومختلة المعايير، ظل الفهم السائد فيها على الدوام، عند الحكومة السودانية أنهاعلاقة قائمة على انقاذها من الأزمات الاقتصادية الداخلية. وتوطيد أركان حكمها، لم تعتمد فيها الخرطوم على استراتيحيات اللعبة السياسية، ورمت فيه أوراقها بلا ثمن، وخسرت كل ما كان يمكن أن تكسبه دون ثمن، لم تعتد بأي معيار يحكم العلاقة بالرياض. وهو ما أعطى السعودية مؤشرات لأن ترسم سياستها على منوال قائم على العطايا والهدايا، وتتصرف حتى في إمرة أعظم الجيوش التي عرفتها أفريقيا يوما.