
حالة من الوجوم خيمت على البلاد مع غرق المركب الذي كان يقل 23 من أطفال قرية الكنيسة بولاية نهر النيل بينما هم ييممون وجوههم ذات صباح نحو قاعات الدراسة، فصولهم لا تقدم علماً ذو بال، لا تحترم حقهم في بيئة دراسية مهيئة، وابتسامتهم حاولت أن تتحدى بؤس حياتهم ولم تنجح، فقد ابتلعها النيل ذات صباح. حادثة مدرسة كبنة ليست الإستثناء بل تكاد تتحول إلى قاعدة من قواعد العيش في سودان اليوم. أنظر ذات اليمين وذات اليسار سترى وجوهاً سحب منها ماء الحياة، تتأمل في أجساد بلا أرواح، إبتسامات متثاقلة لا طعم لها، ودموع لم تستطع المآقي حبسها ومواراتها.
وسط هذا المشهد الجنائزي يرقص الجنرال على جثث ضحاياه في مسرح مجلس شورى المؤتمر الوطني العبثي !! هل رأيت صور أولئك الرجال والنساء وهم يبايعونه لعهد جديد ؟؟ يكذبون عليه حين يخبروه بأنه مخلص البلاد ومنقذها، ويكذب على نفسه وهو عالم بحصيلة حكمه ل 29 عاماً أحالت السودان إلى خراب يستنكف حتى البوم عن سكنى خرائبه. يخبرهم بأنه سيحل الأزمة الإقتصادية في ستة أشهر، يهللون ويكبرون ناطقين إسم الجلالة كذباً كما اعتادوا مضغه طوال سنوات تسلطهم على رقاب الناس. يتقافز فخراً بإنتماءه للحركة الإسلامية تلك الإبنة التي لم تدخر عقوقاُ بالوطن الذي أنجبها ولم تقم به. ترعرعت في أكناف معاهد علمه، ورضعت من ثدي مال فقرائه ولما اشتد ساعدها أمسكت معولها هدماً في كل أرجاءه، ولا تمتلك إلا أن “تدي ربك العجب” في تأمل الطينة التي خلقت منها تلك الحركة العاق.
في خضم هذه “المعمعة” يبرز السؤال التاريخي .. ما العمل ؟؟
تذخر وسائط التواصل الإجماعي بنقاشات ساخنة حول الراهن السياسي .. بيوت الأفراح والأتراح تضج بحوارات من تلك الشاكلة .. انتو دايرين تعملوا شنو ؟؟ أها يا جماعة ما قربت ؟؟ ضقنا خلاااااص تعقبها تنهيدة حارة تحمل في جوفها الحزن والغضب والإحباط وتبحث عن الإجابة عند حزب سياسي أو ناشط \ ة في مجال العام.
لا أزعم بأن هذا المقال يريد أن يجيب بشكل خاتم على سؤال ما العمل ولكن هي محاولة لاستكشاف بعض القضايا ذات الصلة ووضعها على طاولة النقاش. أول ما يخطر بالذهن حين يثار هذا السؤال هو ولم يتحمل شخص آخر عبء الإجابة عن هذا السؤال ؟ الأزمة تمسني أنا شخصياً وأنا من يجب علي أن أجد إجابات تمنحني الخلاص. يثار هذا السؤال كتعبير عن العجز أحياناً .. فصب اللائمة على المعارضة أو حتى النظام تمثل مهرباً مناسباً من الإنخراط الجدي في أفعال التغيير. التفكير والعمل ليست حقاً حصرياً على حزب أو جماعة ولا يجب أن يكونا فرض كفاية يسقط عن البعض متى ما تحمل عبئه آخرين. يبدأ التغيير من محيطنا الإجتماعي المباشر، وتندلع شرارة المقاومة من أفعال صغيرة تتعاظم مع لزمن، ومتى ما حول كل منا محيطه الصغير لحقل من حقول المقاومة اتسعت دائرتها وصعب حصارها بواسطة عسس النظام وجنده.
مفهوم التغيير نفسه يشكل في كثير من الأحيان عقبة في طريق المنخرطين في عملياته .. النظرة الأسطورية التي تفصل بين الحق والباطل وبين الشر المطلق والخير المطلق والتي تتصور بأن معركة كبرى ستحدث يوماً ما تجلي حقبة الظلام كلياً ويعيش عقبها الناس في “سبات ونبات”، تعيق التغيير نفسه وتوهن الساعين لأجله. التغيير عملية مستمرة وليس حدث ينجز في يوم ما في معركة فاصلة، والتغيير لن يحدث عقب سقوط النظام .. التغيير يبدأ الآن في كل جبهة من جباه الحياة اليومية وفي كل قضية من قضاياه. لا أولوية لقضية على قضية ولا يستقيم أن يمسك أحدنا القلم ليكتب أولويات الآخرين. كل إنسان يعي أولوياته تماماً وهو الذي يجب أن يحددها بالأصالة لا بالوكالة. إذا نظرنا لعمليات التغيير من هذا المنظور سنعلم بأن النظام يسقط في كل يوم وأن إرادة إنهاء الظلم والظلام تنتصر .. هل تذكرون المشروع الحضاري ؟؟ هل تذكرون مشروع “إعادة صياغة الإنسان السوداني” الذي تحدثت عنه الإنقاذ في أولى سنواتها ؟؟ قبر المشروع الحضاري ولم يعيدوا صياغة الإنسان السوداني ولا يحزنون، بل أعاد المجتمع صياغتهم بممكناته ومحدداته وانتهوا إلى لا شيء .. محض مسخ مشوه لا هوية له ولا مشروع .. سلطة عارية كمثل قصة فرعون وقلة عقله التي درسناها في سنوات الإبتدائي، يخبرهم الجميع عن سوءتهم ليل نهار ولكن من يبصر ومن يعتبر.
محتوى التغيير هو قضية أخرى لا يجب أن تغيب عن طاولة النقاش .. طحنت بلادنا تحت وطأة صراعات مشروعات أيديولوجية كبرى .. طرحت هذه المشاريع شعارات عظيمة إدعت قدرتها على التغيير الجذري الذي ينهي حقبة الشر السائدة .. انخرط في تلك المشاريع مؤمنون ومؤمنات لم يعزهم الصدق والجدية .. دفع بعضهم عمره ثمناً فداء المشروع والقضية .. ثم إلى ماذا انتهت تلك المشاريع في النهاية ؟ تأمل حال ما انتهى إليه مشروع السودان الجديد في جنوب السودان ؟؟ تأمل حال ما فعله المشروع الحضاري في الشمال ؟؟ هل رأيت ذلك الفيديو الذي يرقص فيه صلاح قوش مع بعض قادة الحركة الشعبية في جنوب السودان على أنغام جوبا مالك عليا !! بعد كل هذه الحرب وكل هذا الدمار انتهى الطرفان إلى هذا الحلف العجيب .. حلف النقيضين اللذين لم يفرقهما المشروعين الأيدولوجيين وجمعهما ” اللا مشروع” … الحقيقة الناصعة هي أن الشعار لا يصنع وطناً وأن المشاريع الخاوية التي لا تطرح رؤى واضحة لتنمية البلاد وإصلاح حال معاش مواطنيها تنتهي إلى دمار الحرث والنسل وإلى عجائب ما أرانا له تاريخ السودان السياسي.
هنالك أضواء تتلألأ في آخر النفق مصدرها ليس مجهولاً، مصدرها هو أنت عزيزي القاريء .. مصدرها هو أنتي عزيزتي القارئة .. يمكننا أن نضيء النفق بأكمله وأن نخرج منه ولكن شرط هذا الخروج هو العمل .. العمل .. العمل … مصدر هذا العمل هو التفكير .. التفكير .. التفكير. التفكير خارج مسلماتنا التي ورثناها وحفظناها باستمرار .. والعمل الذي ينبع من حافز دائم بأن بالإمكان أفضل مما هو كائن، وأن أقدارنا هي نتاج أفعالنا لا أحلامنا وتمنياتنا.
نقلاً عن أخبار الوطن