
في دول الديموقراطية الراسخة، تصعد أو تنزل قيادات الخدمة العامة مع صعود أو نزول حزب/رئيس بأثر الانتخابات العامة. والخدمة المدنية من أدوات السلطة الحاكمة لإنفاذ سياساتها، وإشراف قياداتها على الخطط التفصيلية وإحكام الرقابة على تطبيق برامج السلطة الجديدة المعلنة من خلال الحملة الانتخابية.
أنظر: نموذج اصلاح برنامج الرعاية الصحية في أمريكا الذي نفذه أوباما بعد الصعود ويدافع عنه بعد الإنزال. وانتقادات ترامب وتعهده بإلغائه ضمن برنامجه الانتخابي، وبعد الصعود بدأ في إلغاء جوانب من قانون التأمين الصحي الذي يستفيد منه عشرين مليون أمريكي.
وصعود ونزول قيادات الخدمة العامة، لا يتأثر به صغار المستخدمين في الخدمة، وكثير من القيادات الوسيطة، فهؤلاء مناط بهم تنفيذ ما تقرره قيادات الخدمة العامة التي تلتزم بسياسات الحزب/الرئيس بالتداول الديموقراطي للسلطة. ولا يوجد في السودان مثل هذا التقليد. والمحاولة الوحيدة لفرز القوى العاملة الى (قيادات عليا) و(أخرى) كانت في ٢٠ يونيو ١٩٨٨ بالأمر المؤقت الذي أصدره رأس الدولة وتم إلغاءه. (لم تؤيده الجمعية التأسيسية)
والخدمة المدنية والخدمة العامة، مفهومان يجري تداولهما منذ قيام الدولة السودانية الحديثة. ومفهوم الخدمة العامة أشمل فهي تعني كافة مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية بما فيها السلطة القضائية والقوات النظامية والأجهزة العدلية. والمرجعية القانونية للخدمة العامة هي الدستور.
أما الخدمة المدنية، فإنها تتكون من الوزارات والوحدات التابعة لها، والأجهزة المناط بها إدارة الوظيفة والقوى العاملة التي يتم توظيفها وفقاً للضوابط القانونية لشغل الوظائف وفقاً للوصف الوظيفي، والمرجعية القانونية هي قوانين الخدمة المدنية والعمل واللوائح خاصتها.
إن الخدمة المدنية هي الذراع التنفيذي للسلطة السياسية. وعلى الرغم من أنها هي التي تضع هياكل ونظم الجهاز الإداري، وتحدد أساليب عمله، إلا أن هناك معايير وتقاليد وأعراف متفق عليها عالمياً، تسمح للجهاز بحرية الحركة والمرونة التي تمكنه من تقديم الخدمات الضرورية. ومن تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتي تعتبر أهم أسباب وجوده.
وأكدت التجربة الانسانية على العلاقة الوثيقة بين التنمية الإدارية وتلك الاجتماعية والاقتصادية. وضعف الخدمة المدنية يعني الآثار السالبة والعميقة على التنمية الشاملة. وإن أهم أساسيات الادارة المعاصرة هي:
* أهداف استراتيجية واضحة وسياسات وقواعد أحكام مدروسة وواقعية.
* هيكل تنظيمي يتكيف مع المتغيرات.
* أفراد ذوي كفاءة ومعرفة.
* نظم معلومات متطورة وحزم من التقنيات المناسبة لمتطلبات العمل.
ومعلوم ان حكومة المستعمر البريطاني أورثت السودان:
– خدمة مدنية محايدة تقدم الخدمات والاحتياجات دون تمييز.
– الانضباط والالتزام الصارم بالقوانين واللوائح.
والحقيقة ان هذا الموروث كان فقط في إطار حفظ الأمن والنظام وجباية الضرائب ولا علاقة له بالتنمية وتحسين أوضاع المواطنين.
بدأت الخدمة المدنية في السودان في العام ١٨٩٨ حيث تولى الموظفون البريطانيون الوظائف القيادية، مع أعداد قليلة من المصريين والسوريين في الوظائف الأخرى. وبدأ دخول المثقفين السودانيين في ١٩٣٢. وفي ١٩٤٧ اعترفت جامعة لندن بشهادات الخريجين من كلية غردون التذكارية وفي ١٩٥١ ضمت كلية كتشنر الطبية الى بقية الكليات بالاسم الجديد (كلية الخرطوم الجامعية).
وتمت سودنة جميع الوظائف بواسطة لجنة دولية في ٢ اغسطس ١٩٥٥ وآلت الادارة بالكامل للسودان من بعد أول يناير ١٩٥٦ وتولى الرعيل الأول من خريجي كلية غردون وكلية الخرطوم الجامعية قيادة الخدمة المدنية واتصفوا بالتجرد والحيدة.
والإنزال والتصعيد في الخدمة العامة في السودان إرتبط وثيقاً بالمتغيرات في النظم السياسية (ديكتاتورية-ديموقراطية-شمولية) والإنزال (بعد اسقاط النظام الديكتاتوري) أطلق عليه (التطهير) أما الإنزال في النظم الشمولية أطلق عليه الفصل السياسي أو للصالح العام. وفي جميع الأحوال هو (فصل تعسفي)، يصدر بقرارات رئاسية أو من مجلس الوزراء أو الولاة وأحياناً يكون بأداة لجان مختصة بالنظر في الشكاوى (بعد ثورة أكتوبر ١٩٦٤).
وأبرز آثار التغيير السالبة في الخدمة المدنية بدأت مع انقلاب ٢٥ مايو ١٩٦٩، حيث تعددت موجات الفصل السياسي أو الإنزال، وكانت الموجة الأولى مع قيام النظام العسكري بعزل كل قيادات الخدمة العامة التي افترض الانقلابيون انها غير موالية، وهاجر أغلبهم الى الدول العربية والأوروبية.
وكانت معايير الإنزال في الموجة الأولى:
(١) العداء لثورة مايو (٢) الجمود والتحجر (٣) الرجعية والفساد.
وشمل الفصل السياسي لأول مرة صغار الموظفين والعمال الى جانب القيادات بسبب الانتماء للأحزاب السياسية الرجعية. ومع انزال القيادات تولاها أهل الولاء (الاشتراكيين والشيوعيين).
وبعد عملية يوليو الكبرى ١٩٧١ كانت الموجة الثانية بفصل الآلاف من الخدمة العامة والمؤسسات، شملت القيادات وكذلك صغار الموظفين والعمال. والمعيار، العداء لثورة مايو وتأييد ١٩ يوليو. وكانت بدايات تسييس الخدمة العامة بالكامل وأصبح العاملون الأعضاء في الاتحاد الاشتراكي السوداني (حزب الحكومة) هم المواطنون من الدرجة الأولى وأصبحت قيادات الخدمة أعضاء في المكتب السياسي ولجان الحزب الحاكم. وكان أساس التوظيف (الولاء) قبل (الكفاءة). واستحدث جعفر بخيت في وزارة الحكم المحلي الترقي بالقفز بالعمود والقفز بالزانة كوسيلة لالغاء التدرج الوظيفي المكرس بالقانون القائم وقتها.
أما الموجة الثالثة فكانت من بعد انتفاضة شعبان ١٩٧٤ وشملت كوادر أحزاب، الأمة، والاتحادي، والأخوان المسلمين.
وظلت أوضاع الخدمة المدنية بعد انتفاضة ١٩٨٥ كما هي. ولم تلتفت الأحزاب السياسية لمعالجة ما حاق بها خلال الفترة المايوية. بل إن حكومات الأحزاب واصلت في ذات السياسات ووضعت كوادرها، من الموالين، في الوظائف القيادية بالمؤسسات الحكومية شبه المستقلة (الخطوط الجوية السودانية نموذجاً).
وفي الحقبة الانقاذية الممتدة منذ يونيو ١٩٨٩، فإن الانزال اتخذ صوراً كثيرة سواءً في مرحلة (تأمين النظام)، أو مرحلة (التمكين للنظام) ولم تتوقف موجات الفصل حتى قيام دولة الحزب. ولطبيعة نظام الحكم الانقاذي (الثراء عن طريق جهاز الدولة فقد أصيبت الخدمة المدنية بأمراض غير مألوفة منذ ١٨٩٨ وأبرزها:
١- دخول الحكومة في التجارة ومنافسة بعض رؤساء الوحدات بإيكال أداء مهام وحداتهم لشركات خاصة (يملكها ذات رؤساء الوحدات).
٢- دخول بعض الوزارات والمؤسسات الحكومية والاتحادية والنفايات كمستثمرين تجاريين.
٣- استغلال الوظيفة وقيام بعض رؤساء الوحدات بإيكال أداء مهام وحداتهم لشركات خاصة (يملكها ذات رؤساء الوحدات).
وأكد وزير العدل (٢٠ فبراير ٢٠١٣) على أحقية الدستوريين في امتلاك شركات خاصة دون ادارتها.
٤- تحولت وزارة العمل الى وزارة ايرادية واحتلت المركز الثالث في ميزانية ٢٠١٢
ولا تخلو تقارير الصحف اليومية من حكاوي الموظفين بمحليات الخرطوم والأعمال التجارية في الأسواق وشركات بعض التنفيذيين وبعض النقابيين وبعض التكوينات النقابية التي اتجهت بقوة نحو الاستثمارات العقارية والزراعية والصحية والتجارية، بآليات صناديق الخدمات الاجتماعية، وصناديق الكفالة وغيرها.
إن الحقبة الانقاذية الممتدة فاقت النظم منذ ١٩٥٦ بالآتي:
* تحطيم جهاز الدولة القديم.
* التمييز في الاستخدام والانزال والتصعيد مبدأ ثابت.
* عدم احترام القوانين التي تضعها بنفسها.
لذلك وغيره، فإن الخدمة العامة تحتاج الى إعادة البناء لا مجرد الاصلاح. وتلاحظون في عرضنا لإعادة بناء الخدمة المدنية عدم الفصل بينها، وانصاف المفصولين وفاقدي الوظائف وبناء النقابات وتحسين (مواشي الناس)، واستعادة الديموقراطية كقضية (واحدة)، لا تتجزأ. مع الانتباه أن المستفيدين من الأوضاع الراهنة جمعيهم على ظهر مركب واحد (الثراء بأداة جهاز الدولة) ويشاركهم في مقاومة (التغيير) بعض دعاة التغيير الذين يحلمون بأن يؤول لهم ارث المركب (!) لذلك يلزم أن تطرح كل الأطراف بضاعتها لا الشعارات الخاصة.
وللحديث صلة..
khogali17@yahoo.com