رأي

مجدي أبو القاسم يكتب: حصاد الهشيم: الجيش يقتل مواطنًا على قارعة الطريق فور اعتقاله للاشتباه

(القتلى يبتهلون بأوجههم/ يبكون/ تصفق أيديهم/ يتحشرج فيهم شيء/ تهبط عاصفة/ تتساقط فوق مراياهم رمل الصحراء).
والكلمات للشاعر الراحل الفيتوري في قصيدته “يوميات رجل مقتول”، ولا أجدها تصلح إلا لوصف فاجعة اليوم حين أطلق عناصر من الجيش المتحالف مع الحركة الإسلامية، عشرات الأعيرة النارية على مواطن سوداني بأمدرمان، بذريعة الاشتباه في تعاونه مع قوات الدعم السريع، وذلك بعد ثوان معدودة من القبض عليه، بما لا يتيح وقتاً لتحقق ولا استيثاق.

قال أحدهم في تلك الهوجة الهوجاء: (بنتك زاتا قالت لينا انت دعامي)، وصرخ آخر (الزول دا كان قاعد في الراشدين دعامي آآي). فما كان من جنود الجيش إلا وأن أفرغوا ما يزيد على العشرين طلقة في جسد المشتبه به سيء الحظ هذا، بعد هذا “التداول القضائي” غاية في القصر، إذ تم التحقيق والنطق بالحكم وتنفيذه بعد سماع عبارتين، ظفر عبرهما القاتل بمسوغ لارتكاب جريمته على رؤوس الأشهاد. بل وتم التوثيق لذلك من خلال فيديو انتشر بكثافة على وسائط التواصل يوم الأربعاء، وكان القاتل هو الجيش السوداني الذي يتغنى دعاة الحرب بقوميته على وسائط التواصل صباح مساء.

من المستحيل تقبل أن يقوم جيش قومي بقتل مواطنيه على الملامح والهوية، مهما تشدق دعاة الحرب بمناصرتهم لمؤسسات الدولة. لكن ما يظهره فيديو الإعدام بعد نظرة فاحصة، هو أن الدافع الأساسي للاشتباه في معاونة هذا المواطن لقوات الدعم السريع هو ملامحه التي تنبئ عن انتمائه لقبائل غرب السودان، المتهمة والمدانة في آن واحد في حرب إخوان الشياطين القذرة هذه، باعتبارهم “حواضن” لقوات الدعم السريع.

ينخر الجيش في عظم التعايش الاجتماعي بين القوميات السودانية بدأب عجيب، ويوغر صدور الناس بالمرارات، فلا تدري بأي ذنب قتل ذلك السوداني سيء الحظ، والذي لم يُمنح الوقت والفرصة للدفاع عن نفسه، وقول ما يكرهون من أن لا علاقة له بالصراع العسكري بين المتقاتلين.

(القاتل انت/ لا ترفع سوطك في وجهي/ سأشير إليك/ سأرفع مطرقتي/ كفي المدفونة تحت ثرى سيناء أتسمعني! سأشير إليك).
يهدد “المقتول” في قصيدة الفيتوري “القاتل” بالإفصاح والإشارة وإثبات التهمة، وأن يفضحه على رؤوس الأشهاد. لكن قتيل الجيش اليوم أشهد الناس على محنته وبراءته من خلال الفيديو المصور، والذي يوثق الجريمة من لحظة القبض عليه وحتى إعدامه على قارعة الطريق، وبقرينة واحدة هي قول أحد النكرات: (الزول دا كان في الراشدين دعامي آآي)، ولا شيء بعدها سوى الرصاص يخترق جسد الضحية في مشهد صادم، يتفوق في بشاعته على فيديوهات المذابح الجماعية لجزار سوريا الساقط، والتي انتشرت بكثافة على الوسائط بعد سقوط نظامه. فهل تُحاكم الحركة الإسلامية والجيش الخائن المتحالف معها على مثل هذه الجرائم؟ أم إن ذنب الجيش مغفور طالما كان الضحايا ينتمون لإثنيات جنوب وغرب البلاد؟

(إنزع هذا الدرع الذهبي/ إخلع هذا الوجه الخشبي/ تحطم عصفاً كالتمثال/ تجرد من وهج الأشياء/ الآن أحدق في عينيك/ أنا المقتول/ أعلق راياتي فوق مدائنك الخرساء).
لم يعرف المقتول في فيديو الإعدام مبعث غبن قاتله، ولماذا اختاره من دون الآخرين؟ أو لماذا “يتبلون” عليه، وينسبون له ما لم يفعل. لا يعرف أنهم أدخلوه كطرف في الصراع ذات خساسة قاتلة، ولا يعرف أنه المستهدف قبل القوات المعادية بالقتل على الهوية، ولأسباب عرقية وإثنية، هي ذات علاقة وثيقة بالصراع في طوره المتوحش، والذي يعتمد في جوهره على قتل أكبر عدد من المدنيين، بما يحقق التناحر بين المجتمعات السودانية، وبما يخدم المشروع الظلامي لأقلية الحركة الإسلامية في الظفر بحكم جزء من البلاد، تكون الحرب خارج حدوده الإقليمية، لتنعم ولايات الشرق والشمال بالأمان وتكون البراميل المتفجرة من نصيب المدنيين في الغرب والجنوب.

تخليص السودانيين من عبودية الحركة الإسلامية المستحدثة هو غاية في التعقيد هذه المرة، يعتمد السلاح والسياسة والنفس الطويل. فأما السلاح فهو جهيزة التي ستقطع قول كل خطيب، وأما السياسة فهي ما يحرم الحركة الإسلامية من الانفراد بلقب “حكومة الأمر الواقع”، ومن امتياز استخدام أجهزة الدولة ضد السودانيين، وتقلل كذلك من تحكمهم بمصائر الناس.

وغني عن القول أن مناطق آمنة في الغرب والجنوب ستدفع بالكثيرين للانتقال إليها بغرض الاستقرار، ما يفشل نظرية الحركة الإسلامية في إعادة تجربة الإنقاذ، بحيث تكون الحرب في الأطراف البعيدة، بينما ينعم المركز بالأمام. وما دون ذلك فستظل الحركة الإسلامية والجيش المخصي المتحالف معها يعملون في الناس الاعتقال على الهويةـ والتعذيب، والقتل على الإثنية، ولمجرد الاشتباه على قارعة الطريق، بفتوى الإمام القاتل “علي كرتي”، أخزاه الله وأبطل مسعاه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى