رأي

إبراهيم مطر يكتب: إلى جنرالنا الذي لا يموت.. فقط لأننا نحلم حلمه!

لله درك أيها الشهاب الذي أضاء عتمة سماوات السودان في أواخر العام الثاني لحرب “إخوان الشياطين” القذرة. أيها القديس الأغبر، نبي الهامش الذي قال كلمته ومضى، القائد الميداني المعروف “الجنرال جلحة”، والذي كان رقماً صعباً في معادلة الصراع من ساعة انضمامه لثورة الهامش المسلحة ضد العدوان الإخواني، وحتى رحيله في هذه الثلاثاء، بعد أن صدق وعده، وأوفى بما قطع على نفسه من عهود، تاركاً وصيته المكتوبة بالدم لرفاقه المناضلين، أن لا تراجع عن أهداف الثورة السودانية المسلحة، ولو كره الكارهون.

جاء الجنرال جلحة بن المسيرية من مجاهل التهميش الذي عانى منه الملايين من أبناء السودان لسنوات وكأنه قدر محتوم، وحينما صرخ الهامش بلاء الرفض المكلفة، لبى جلحة النداء مقدماً نفسه لقضية الدعم السريع مقاتلاً في صفوفه يعي لماذا يقاتل، فكان من جيل “إن شاف يوعى وإن وعى ما يخاف”، كما قال شاعر العامية المصري عبد الرحمن الأبنودي ذات نبوءة.

تحدث رئيس حركة شجعان كردفان بلسان صدق بدوي مبين فأحسن الحديث، ووصل حديثه لقلوب السودانيين حتى من انحاز منهم للجيش “في كامل العمى”، وكذلك من لم يغب عنهم خنجر الحركة الإسلامية المسموم، والمخبأ بعناية في عباءة الجيش، الذي ابتعد بالكلية عن كل ما يؤدي إلى الشرف من مسالك ومن دروب. فكان جلحة شاهداً على خيانة جيش لم يقتل منذ تأسيسه سوى مواطنيه، وكان أن اختار قتاله بصورة معلنة ودون تردد، وأن يجهر بشهادته هذه للتاريخ، يدفعه نقاؤه إلى أن يصرح بكل شيء، وأن يبدو واثقاً بشدة من نفسه، ومن كونه لا يطلب أكثر من حقه في وطن دفن فيه أجداده كابراً عن كابر، وألا يكون ذلك عرضة للمساومة. قال الشاعر مريد البرغوثي: “شهوة أن تكون الخصومة في عزها واضحة/ غير مخدوشة بالعناق الجبان”.

لم يتقعر جلحة في الحديث، ولم يتلجلج ولم يداهن، بل شرح عدالة قضيته للناس في كلمات بسيطة سيتردد صداها طويلاً في آذان السامعين وقلوبهم، كونها تحكي عن مرور فارس من فرسان العصور الوسطى على أرض السودان في القرن الحادي والعشرين، أكمل سيره في دروب النضال الطويلة والوعرة، قبل أن يلاقي ربه شهيداً وقد أدخله الله مدخل صدق وأخرجه مخرج صدق كولي صالح، تنزلت بركاته على نفسه فشهد له الملايين بالصدق والصلاح، و”من أحبه الناس أحبه الله”، وتنزل إلهامه على مقاتلي قوات الدعم السريع ثباتاً عند اللقاء وعزماً عند الشدائد، فاللهم انزله منزل صدق عند مليك مقتدر.

وجد “جلحة” الإخوان وقد لوثوا مفهوم “الوطنية” نفسه، ووضعوا عليه من المساحيق ما غيب ملامحه، وجعله إلى “الريبة” أقرب، من ذلك اليقين الأليف. لكنه لم يلبث أن نقى – بطريقته الخاصة – ثوب الوطنية الأبيض من الدنس، وأظهر فيه ما غيبته مساحيق الإخوان الكذوبة من زيف. اعتز جلحة بجذوره ورسوخه في أرض السودان، وكانت محاولات إخوان الشياطين للتأثير عليه نوعاً من العبث الصبياني الذي لم يسمن ولم يغن من جوع.
وشهد جلحة تحول حرب الإخوان لحرب على “الرزيقات والمسيرية وإثنيات غرب السودان”، فلم يقع في فخ خطاب الكراهية الإثني المنصوب بعناية، وظل يتحدث عن السودان الواحد الموحد، الذي يتعامل فيه الناس على قدم المساواة. كان لدى الجنرال جلحة حلماً شبيهاً بحلم رائد الحقوق المدنية الأمريكي “مارتن لوثر كينغ”، وحلمه سوف يتحقق.

لم يبق إلا أن نقول بأننا هنا لا نزكي الشهيد الجنرال “جلحة” على رفاقه من شهداء الثورة السودانية البررة، رضوان الله عليهم أجمعين، لكن ببساطة لكل قصة، وهذه قصته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى