رأي

سُلطة السائد

نهال كرار

“تُقاس أهمية الفكر بالمسافة الفاصلة بينه وبين تواتر المألوف”
ثيودور أدورنو

في وقتٍ من الزمان كنت أمارس هواية الرسم، فقررت أن ألتحق بمعهد للفنون التشكيلية وأنا أمنِّي نفسي بأن أجد في تلك الهواية ما أبحث عنه؛ كانت رائحة الألوان والزيوت تعبق في مبنى قديمٍ أثريّ تم تحويله لاحقاً لمعرضٍ يتبع لدائرة الفنون، زُيِّنت جدرانه وأرضيته بأعمال أشهر الفنانين، وبقدر جمال المبنى والدفء الذي يشعر به الزائر كان حماس مجموعة مختلفة من الطلاب والطالبات بمختلف أعمارهم وأجناسهم.
أستاذ الفنون “جميل*” من أشد المشجعين للمدارس الكلاسيكية في الفن التشكيلي، يؤمن بأنها إله الفن التشكيلي ومنبعه، وأن الرسام لا يُعمَّد كفنان تشكيلي ما لم يُتقن رسم لوحات المدرسة الانطباعية؛ فشدَّد ألا ننتقل خطوة قبل إجادة رسم لوحات مونيه، إدغار ديغاس، ورينوار، وهي لوحات تعتمد على النقل المباشر دون إعمال الخيال.
ليس الاعتقاد بمنهج محدد في التدريس -عموماً- خطأ ولكن عدم الاعتقاد بغيره مشكلة، تحدّ من الإبداع وتستخف بمدارس فنية عظيمة وبفنانين عظام، وتلك كانت مشكلة أستاذنا الكلاسيكي.
على عكسه أستاذ الفنون “مصطفى*”، ملون مبدع ومتأثر بمدارس الفن الحديثة والفن المعاصر، مهتمٌّ بفتح آفاق المعرفة والتجريب لدى الطلاب والطالبات، وتثقيفهم بصرياً بمشاهدة الفنون والنقاش حولها، وإتاحة المجال للطالب في اختيار مشروعه ليكون دور الأستاذ هو المشرف والموجه فقط.
صدام الإبداع المتحرر والسلطة السائدة والتقليدية أفسد علينا فرصة الاستفادة من أستاذنا “مصطفى”؛ فتقدم باستقالته وترك المعهد لنظام واحد في التدريس لا يقبل التغيير.
إن من أصعب التجارب التي يواجهها الإنسان نحو اكتشاف ذاته، أو يواجهها المبدع، هي الصدام مع السلطات التقليدية في مؤسسات الدولة، سواءً كانت سياسية، فنية، أدبية أم غيرها؛ تلك المؤسسات تحدّ وتُحَدِّد الإبداع وفقاً لمعايير تقليدية في الغالب، ثم تُحوِّل تلك المعايير لمقياس لتصنيف الفنون. كتب الفيلسوف الألماني ثيودور أدرنو عن نظام صناعة الثقافة لدى الأنظمة الشمولية والرأسمالية، وكيف أصبحت السينما والتلفزيون والراديو مؤسسات تابعة للدولة وتتحكم فيها وفق معايير استهلاكية، أفقرت خيال المشاهد وقدرته على التفكير. يقول “*إن الحذر المزدوج تجاه الثقافة التقليدية بوصفها آيديولوجيا يمتزج مع الحذر تجاه الثقافة المُصنَّعة بوصفها احتيالاً، إن الأعمال الفنية، وبعد أن استحالت تابعاً، قد صارت دون منزلتها وقد تخلَّى عنها محبوها السعداء سراً، وفي الوقت نفسه يجعلها البائعون ضمن وسائل الإعلام. أما المستهلكون فيفترض فيهم الاكتفاء بمجرد وجود أشياء تستحق أن تُسمع أو أن تُرى. عملياً، لقد صار كل شيء مقبولاً.” انتهى.
الخروج عن قيود تلك الثقافة المصنعة قد يكون في كثيرٍ من الأحيان فادحاً في مدى قسوته، فقد يكون العقاب بالتهميش المتعمد في حياة الفنان، وفي حالات أخرى قد يُعتبر الإبداع الخارج عن المألوف دعوة إلى التحرر من السائد المنتشر برعاية مؤسسات الدولة.
ففي ستينات القرن الماضي، احتفى السينمائيون بتحفة المخرج السينمائي الأرمني الأصل سيرجي باراجانوف “ظلال الأسلاف المنسيين”، الفيلم الذي مَهَّد لظهور مدرسة سينمائية تُعلِّي من الرمزية، وتهتم بجماليات الصورة السينمائية، وتكوينات المشهد السينمائي فكأنك أمام لوحات تشكيلية مصورة. كذلك، وعلى عكس السائد في الأفلام السوفيتية في ذلك الوقت، كانت أفلام سيرجي “لون الرمان” و”اشيك كريب” تحكي الأساطير والقصص الشعبية وتعزف الفلكلور الشعبي، تحتفي بثقافة شعوب الأرمن وجورجيا وأوكرانيا؛ فقبائل جبال الكاربات -السكان الأصليين في أوكرانيا- كانوا أبطال قصة “ظلال الأسلاف المنسيين”، تلك القبائل التي لم يعد لها وجود حالياً. الاحتفاء بثقافتهم الشعبية ولغتهم بمثابة تذكير على وجود جزء مهم من الشعب السوفيتي عانى من التهميش طويلاً، كما أن الرمزية التي تحفو بها أفلام سيرجي عكست رؤية المخرج حول التعددية الثقافية.
ذلك التمرد الخارج عن المألوف، والمتحدي لأنظمة الدولة، كلَّف المخرج سيرجي باراجانوف سنوات في السجن عدة مرات بتهم المثلية وتقويض نظام الدولة السوفيتية!
قد يفاجؤك البعض بسؤال استنكاري بأنك تغيرت، قاصداً أن أفكارك ونظرياتك في الحياة قد تغيرت، قد يكون السؤال استنكارياً أو استعجاباً مما وصلت إليه، في الحالتين يصدر من شخص يرى أن التغيير هو أمر غير مألوف ويدعو للسؤال.
فأن تتبنى أفكاراً مختلفة عما سبق لك، الاقتناع بها بناء على تراكمات معرفية وخبرات في الحياة، وتفعيل الشك والسؤال أو تحرير العقل، والبحث عن التجديد والإبداع؛ كلها استبصارات قد تصطدم في كثير من الأحيان بحاجز مؤسسة المجتمع أو الفكر الغالب على الجماعة، بالتقليدية في التفكير ونمط الحياة. هنالك من يؤمنون بأن الأفكار ثابتة لا مجال للتغيير فيها أو طرح الأسئلة، لأنهم في كثير من الأحيان يتبعون الفكر السائد في مجتمعاتهم، ويتأثرون بالثقافة الأكثر انتشاراً، وهنا تصبح تلك الثقافة وتلك الأفكار هي مقياس يحدد به التغيير ويتم استنكار ما دونه. وهؤلاء يضيّعون على أنفسهم متعة التجريب والاختبار، بل ومتعة المعرفة.
________________
* أسماء غير حقيقية.
* كتاب ” جدل التنوير” فصل ” صناعة الثقافة – التنوير وخداع الجماهير ” لماكس هوركهايمر وثيودور ادورنو.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى