
حوارات القواعد
مثلت قرارات اجتماع القادة العسكريين والسياسيين والإدارات المدنية ومنظمات المجتمع المدني بإقليم جبال النوبة، في 7 يوليو 2017، القشة التي قصمت ظهر وحدة قيادة الحركة وانقسمت على إثرها قواعدها الجماهيرية داخل وخارج البلاد (26).
• وهكذا، تحوَّل الشقاق بين أعضاء القيادة الانتقالية “الثلاثية” إلى انشقاق مكتمل الأركان في الحركة الشعبية شمال، التي لم تعد كما كانت عليه في مارس 2017، بعد أن تفرقت السبل بين قادتها. ولعل تأييد اجتماع القيادات العسكرية للجيش الشعبي، 15-16 يونيو 2017، لكل قرارات المجلس الإقليمي، خاصة تنصيب الفريق عبد العزيز الحلو، رئيساً للحركة وقائداً للجيش الشعبي، قد دفع رئيس الحركة المقال لتحديد موقف نهائي تجاه هذا التطور. وهذا بالفعل، ما صاغه في كلمات واضحة المعاني، “نحن نعتز أيما اعتزاز برفاقنا الذين شاركوا في اجتماع المجلس العسكري في جبال النوبة، وكنا ننتظر نتائج اجتماعهم لنقول موقفنا النهائي، ونعلم إنهم مناضلين أفنى معظمهم زهرة شبابهم في النضال ضد فاشية الخرطوم، وعلينا جميعاً أن نترك فرصة لما سيأتي به المستقبل فربما نلتقي مجدداً في رحاب حركة تسع جميع السودانيين، فالذي يجمعنا أكثر من الذي يفرقنا، ولنا تجارب من الحركات الثورية وانقساماتها بمافي ذلك الحركة الشعبية” (بيان رئيس الحركة السابق، 17 يونيو 2017).
• وتجدر الإشارة، إلى أنه، خلافاً للصراعات الدموية السابقة على قيادة الحركة، مثلاً فى 1983ـــ 1991، التي خلفت أعداداً هائلة من الضحايا والمعاقين، فقد جاء انتقال السلطة في الحركة الشعبية شمال سلمياً بدون قتال، ولو أن الانتقال لم يكن ليتم بدون مباركة وتأييد هيئة أركان الجيش الشعبي والقيادات العسكرية. ومع ذلك، فالدماء التي أريقت من جراء المصادمات العنيفة والاشتباكات المسلحة التي وقعت بين فصائل للجيش الشعبي في جنوب النيل الأزرق، أفسدت مظاهر هذا الانتقال السلس لسلطة القيادة.
• يصوِّر الرئيس والأمين العام السابقين الخلاف على أنه صراع بين خيارين، إما بناء حركة قومية، لكل السُّودانيين، على أساس مشروع السودان الجديد، أو تقزيمها إلى حركة إقليمية تسلِّم أمرها إلى “قوى من القوميين ضيِّقي الأفق “. وبحسب هذا التصوُّر، فإنهما يسعيان إلى تجديد “بناء الحركة ومواقفها النظرية وممارستها العملية، وأن ننتقل بها إلى مربع جديد مع كافة الراغبين في التغيير” (بيان رئيس الحركة السابق، 9 يونيو 2017). توحي هذه المقاربة بأن القائدين يعدان قرارات مجلس تحرير جبال النوبة، وموقف الرئيس الجديد للحركة حيال القضايا الخلافية الثلاثة، قد فارقت في مضمونها رؤية السودان الجديد. ولكي يتم هذا الانتقال على أرض الواقع، فسوف يشرع الرئيس والأمين العام السابقين في إجراء “اتصالات مع كل الرفاق الرافضين للانقلاب للبدء في مسيرة جديدة لإعادة بناء حركة وفق رؤية السودان الجديد لكل السودانيات والسودانيين الراغبين والراغبات، وبمراجعة وتقييم نقدي وشامل لكامل تجربتنا بما في ذلك وسائلنا النضالية” (بيان رئيس الحركة السابق، 17 يونيو 2017). كما، تم الإعلان عن التوجه “نحو بداية جديدة وميلاد ثاني لرؤية السُّودان الجديد، ننظر بذهن صافي ومتقد، وجمعي وجماعي، لنعبِّر بها ومعها نحو ميلاد ثاني” (ياسر عرمان، 1 يوليو 2017).
• ومع ذلك كله، فإن تحرير الخلاف يظل منقوصاً إن اُقتصر فقط على استعراض حُجج ودفوعات القادة من طرفي الصراع، الذي يأخذ شكل البيانات المتبادلة بينهما، ولن تكتمل الصورة بدون تسليط الضوء على تداعيات هذا الخلاف على قواعد الحركة وما غرسه من انشقاق وسط القواعد. هذا الانقسام على مستوى القيادة لا شك قد خلق اصطفافاً قاعدياً، يلحظه المراقب العادي قوامه جمهوران مُتصارعان مستغرقان فى تبادل الحجج والاتهامات، في سوق الأسافير الكبير. فالمتابع للسجالات بين عضوية الحركة في مجموعات الواتساب، مثلاً، لن تفوته ملاحظة ما تنضح به من حوارات حارة النفس بين فريقين متنافرين، كل منهما يناصر موقف أحد الطرفين، بما يوضح اكتمال عقد، ومدى عمق الانشقاق. ولعله من إيجابيات الحوار المحتدم، وإن لم يخل بعضه من عنف لفظي، توفيره الفرصة للمصارحة “الفضفضة” والفصح عن المكتوم وتبادل الآراء الخلافية، طالما بقي السلاح محايداً. • في الإطار العام للقضايا الخلافية الثلاث (مصير الجيش الشعبي، تقرير المصير، التحالفات السياسية)، تثير هذه النقاشات خلافاً جوهرياً وسط العضوية حول “قومية” الحركة، بعد قرارات المجلس الإقليمي، مقابل تراجعها إلى حركة “إقليمية”؟ ويرتبط هذا الموضوع على نحو وثيق بطبيعة نشأة وتكوين الحركة الشعبة، وتبني مكوناتها لوسائل نضال مختلفة (العمل العسكري والفعل السياسي)، والخلاف حول دور تقييم مساهمة كل منهما، والتمثيل العادل لهذه المكونات، خاصة “قطاع” الشمال. ويظل هذا الوضع غير المتكافئ، وكيفية التمثيل الحقيقي لكل مكونات الحركة في مؤسسات اتخاذ القرار، من المواضيع المهمة التي لم تجد حظها المناسب من الحوار منذ تأسيس الحركة الشعبية. وقد نشرت في هذا الشأن عدة مقالات في أعقاب فشل المؤتمر العام الثاني للحركة، مايو 2008، في مخاطبة هذه القضايا، ولم يلتفت لها أحد. (انظر مثلاً، حوار مع النفس: الحركة الشعبية والعودة إلى منصة التأسيس، صحيفة الأحداث، 20 ديسمبر 2009، وقطاع الشمال للحركة الشعبية: تمثيل مؤسسي أم إشراك ظاهري؟، صحيفة الرأي العام، 11 يوليو 2710، والشماليون في الحركة الشعبية: تحويل الخصوم إلى أصول، الراكوبة، 1 سبتمبر 2011). تكمن أهمية حوارات قواعد الحركة في طرقها على القضايا الحيوية، التي في رأيي، تشكِّل أجندة الحوار الرئيسة بين كل الأطراف حول مآلات وحدة ومستقبل الحركة الشعبية، كما أنها ترفد القيادة من على الجانبين بموجهات الرأي العام وسط القواعد.
• الخلاف بين الفريقين المختصمين حول “قومية” الحركة الشعبية شمال له عدة مداخل متشابكة، ويتم التعبير عنه بتصورات مختلفة ووقائع متعددة. فبينما ينظر مناصرو القيادة الجديدة إلى قرارات مجلس تحرير إقليم جبال النوبة، كثورة تصحيحية ساعية للإصلاح، يراها أنصار الرئيس، والأمين العام السابقين، كإقصاء متعمَّد للآخرين، مما يعد بمثابة فرز جهوي لمكونات الحركة، وتراجع للتنظيم على خطى الحركة الشعبية في الجنوب، بل واختطاف للحركة وتحويلها إلى حركة جبال النوبة، فتضعضع المشروع لتحل مكانه الإثنية والقبلية. ففي رأي المعارضين للتغيير، أن الطعن في “قومية” الحركة لم يأت من فراغ، بل مرتبط بحيثيات الإطاحة بالأمين العام. فالبرغم من أنه لا يمكن اختزال تعريف “القومية” في شخص، إلا أن عزل الأمين العام وحده، مع استثناء الرئيس، يشيء بانتقائية قرار المجلس الإقليمي، خاصة والفريق عبد العزيز في خطاب استقالته قد وضعهما في خانة واحدة من الاتهام. وقد يفسّر هذا الاستثناء أحد سببيّن، أو الاثنين معاً. أولهما، أن الأمين العام لا يتمتع بقاعدة في الجيش الشعبي في أي من المنطقتين، بل واتهامه بالعجز عن جذب واستقطاب أي جماعة مقاتلة. ثانيهما، لأنه أصلاً “جلابي” من الشمال – النيلي ولا ينتمي إلى أي مكوِّن إثني في جنوب كردفان أو النيل الأزرق. ولذلك، فإن ترك أمر إقالة الرئيس إلى مجلس تحرير النيل الأزرق يستبطن عدم اعتراف المجلس الإقليمي لجبال النوبة بقطاع الشمال كمكوِّن مستقل.
• أما الطرف الآخر، فلا يرى في الأمر أثننة” أو “نوبنة”، فذات الأمين العام قد سبق أن تم استقباله بحفاوة، وذبحت الثيران احتفاءً بقدومه إلى المناطق المُحررة، بل والرئيس الذي كُلف بالمنصب ليس نوباوياً، كما أعلن هو بنفسه في خطاب الاستقالة. ومن زاوية أخرى، يتساءل أصحاب هذا الرأي عما إذا كانت “قومية” الحركة الشعبية تعرف بشخص الأمين العام السابق، أو حفنة من الأعضاء، فإن بقي في الحركة فهي قومية، وإن ابتعد فقدت قوميتها؟ لذلك، يثيرون سؤالاً حول تعريف مفهوم “القومية” في وصف الحركة الشعبية: هل تنتقص غلبة مكوِّن على باقي المكوِّنات من “قومية” الحركة؟ فهكذا، قومية الحركة تكمن رؤيتها وبرامجها، وأهدافها، ومشروعها للتغيير. وربما، ما يضعف من هذه الحجة البيان الصادر من بعض القيادات العسكرية والسياسية في النيل الأزرق، إذ تشير إحدى فقراته صراحة إلى أن “القيادة في الحركة الشعبية والجيش الشعبي تاريخياً تقوم على الثقل القبلي وتعداد المقاتلين” (بيان المجلس العسكري، إقليم النيل الأزرق، 1 مايو 2017).
• وتكشف هذه الحوارات أن إقحام الفريق عبد العزيز، لموضوع الإثنية في خطاب الاستقالة وتحميل بعض قيادات “النوبة” مسؤولية إبعاده من دائرة سلطة اتخاذ القرار، التي هيمن عليها رئيس الحركة وأمينها العام، ألقى بظلال كثيفة على الحوارات القاعدية حول دور الإثنية في الصراع، وفي الحركة ككل. فطرقه على ما تعرَّض له تهميش واستبعاد، من الرئيس والأمين العام، بسبب الإثنية، كان له دور أساسي في دفع مجلس إقليم جبال النوبة لاتخاذ قرارات مصيرية أعادت الثقّة في الفريق عبد العزيز، بل ومنحته تفويضاً كامل الدسم لإدارة شؤون الحركة. ويبدو من حوارات القواعد أن الإحساس بالإقصاء والتهميش لكوادر الحركة من جبال النوبة دفعهم لتسلُّم زمام قيادة الحركة، كما هو حال الجنوبيين في السابق، بالأصالة وليس بالوكالة. فهم يشكِّلون عماد وعظمة ظهر الجيش الشعبي، مصدر النفوذ السياسي للحركة الشعبية، كما هم وقود وضحايا الحرب. فالحركة الشعبية كتنظيم له هياكله ومؤسساته غير موجودة في الولايات الشمالية، كما هو الحال في جبال النوبة، والتي احتلت موقع الجنوب في السابق، حيث الوجود “الفعلي” للحركة في مقابل وجودها “النظري” في الشمال. وبهذا الفهم تُطرح أسئلةً على شّاكلةِ: لماذا تُقاتل بعض عضوية التنظيم الحكومة بينما الآخرين، خاصة الكوادر النشّطة، مثل أعضاء مجلس التحرير، يوجدون في المناطق تحت سيطرة الحكومة؟ لماذا لم يشارك من يتسنمّون مواقع قيادية في التنظيم في كل ولايات الشمال في العمل المسلح، أم هل أفردوا المهام العسكرية والقتالية للجيش الشعبي بجبال النوبة، على أن يتفرَّغوا هم لاحقاً للتفاوض وتحديد نسب المشاركة في السلطة واختيار ممثلي الحركة الشعبية في الحكومة؟.
• من زاوية أخرى، يتجلى التشكيك في “قومية” الحركة في موضوع كيفية التمثيل العادل لكل المكونات (المنطقتين وقطاع الشمال) في مؤسسات الحركة الشعبية، فهل يطبق منهج التمثيل المتساوي للمكونات الثلاثة، بمعيار القوة العددية؟ أم يكون حمل السلاح، وما يصحبه من تضحيات، هو المعيار “النوعي” لتحديد نسبة التمثيل؟ في رأي المؤيدين لقرارات المجلس الإقليمي، أنه بحكم الواقع فإن المُكوِّن الرئيس والركيزة الأساسية للحركة والجيش الشعبي من جبال النوبة، فلا مجال أن يشكِّل قطاع الشمال، أو المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة، الأغلبية، أو حتى التمثيل المتساوي، في المؤتمر العام الاستثنائي المرتقب. وعليه، فإن “قومية” الحركة تمر عبر بوابة جبال النوبة، إذ أن شروط المشاركة في المؤتمر تتطلب الالتزام بالقضايا الإستراتيجية، على رأسها الكفاح المُسلَّح كآلية لتحقيق أهداف الثورة، أو قضية مثل حق تقرير المصير. وبذلك، سيقُتصر التمثيل في المؤتمر على عضوية الحركة في المناطق المُحررة، إضافة إلى الأعضاء المُلتزمين في المناطق التي يتيسَّر الوصول منها إلى مكان الاجتماع دون أن يعرضوا حياتهم إلى الخطر. بمعنى آخر، أن الواقع السياسي يحد بشدة من حرية تحرُّك عضوية الحركة من المناطق الخاضعة للحكومة، خاصة المشاركة في مؤتمر تنظمه، في فهم الحكومة، حركة مسلحة متمرِّدة على الدولة، مما سيضعف من تمثيل قطاع الشمال. خلاصة الأمر، فإن كان مدى النفوذ العسكري هو الذي يحدد نسبة المشاركة، فذلك سيخلق اصطفافاً، ويفاقم من حدة الاستقطاب بين عضوية الحركة في المنطقتين، خاصة جبال النوبة، من جهة، وقطاع الشمال، من جهة أخرى، بدأت ارهاصاته ماثلة. في رأيي، إن ما أسهم بدور كبير في تفاقم الصراع الحالي هي فكرة الزعيم الراحل بتقسيم الحركة إلى قطاعين، مع ضم جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق إلى قطاع الجنوب، وما زاده تفاقماً عدم اكتمال عملية بناء الحركة في سودان ما بعد الانفصال بسبب اندلاع الحرب.
نشر في صحيفة التيار