
ربما سيذكر بعض الزملاء والزميلات في المجال الصحفي ، انني كتبت مقالين في اوقات مختلفة ادعوا فيها للنظر الي ضرورة تجديد مهمة شبكة الصحفيين السودانيين وفق استراتيجية واضحة ، كان يهمني في تلك المناقشة ان اثير اسئلة مهمة تتعلق بالتشبيك والفائدة العامة من بناء مناخ مفتوح للصحافة في السودان، لكن جانب من اهتمامي بالموضوع هو كوني واحد من المؤسسسيين للشبكة وكنت طرفا من المناقشات الاولية التي افضت الي الاعلان عنها في نوفمبر 2008. وحرصا على ضرورة هذه المناقشة اعيد فتحها من جديد وفق عدة محاور جديدة :
ما هو الهدف الاستراتيجي لشبكة الصحفيين السودانيين؟ هنا نبحث عن القيمة المضافة التي اتت بها الشبكة في تاسيسها الاول، الاستراتيجية التي بنتها خلال السنوات الماضية من تجربتها واضعين في الاعتبار بالضرورة هو الوضع القانوني المتكيف مع اوضاع السودان. في هذا نسرد قصة تشكيل الشبكة والمناقشات المصاحبة للتاسيس وفي تقديري الخاص ان الشبكة رغم تطاول عمرها طوال هذه السنوات الا انها مازالت توصف في خانة التأسيس وبالضرورة التنقيب عن الهدف الاستراتيجي لوجودها.
في اكتوبر 2008 كان السودان تحت سقف الدستور الانتقالي واتفاقية السلام الشامل، وهي الاجواء التي انفتحت مع التوقيع على اتفاقية السلام الشامل 2005، لكن وللمفارقة ظل جهاز الامن والمخابرات يفرض رقابة متشنجة على الصحف ووسائل الاعلام الأخرى بلا مسوق قانوني ولا دستوري.
استمرت تلك الرقابة القبلية المتعسفة والجاهلة والمستفزة حوالي ثمانية اشهر في وقت كانت البلاد كلها تواجه اكبر استحقاقات شعبية في تاريخها. استحقاق شعب جنوب السودان في تقرير مصيره المتفق عليه في يناير 2011 والذي يصدف العام الاخير لعمر الفترة الانتقالية من 2005 الي 2011. الاستحقاق الثاني كان استحقاق انتخابات تاريخية في 2010 واستحقاق شعوب جبال النوبة والانقسنا في مشورة شعبية تضمن ضمن رؤية البلاد الاستراتيجية للمناطق المهمشة.
تلك كانت الحقوق المبذولة في الورق ، ولم يتورع الطغاة في ان يكتبوها في الدستور وفي ديباجته الاولى ” لنا حقوق ولكم اجابات”. ضاق الصحفيون ذرعا بالرقابة، ارهقتهم نفسيا وماديا ومعنويا لدرجة غير معقولة . في وسط تلك الاحداث اراد جهاز الامن تصدير الأكاذيب ومنع الرصانة والمعقولية وحبس المعلومات من الناس الذين سيساقون قريبا الى صناديق اقتراع مزيفة. يمكن للناس ان يرجعوا الى الاعلان التاريخي الذي كتبته شبكة الصحافيين في 17 نوفمبر 2008 والقضايا التي اثارتها في تلك الوثيقة المهمة. لم يكن يسند جهاز الامن لا منطق لا دستور ولا قانون الا العنجهية .
في وسط هذه الاجواء بعث زملاء من جريدة الميدان منهم حسين سعد وايمن سنجراب برسالة الي عدد من الصحفيين لمناقشة مفتوحة حول الاوضاع وعلى راسها الرقابة القبلية. تجمع حوالي 30 الي 40 صحفي وصحفية بقاعة طيبة برس في الخرطوم وجرت مناقشة مفتوحة ساهم فيها الزملاء بموضوعات مهمة وفي لب الموضوع ، تلخص السؤال في ” كيف يمكن مقاومة الرقابة القبلية وايقافها؟ هذا السؤال الواضح والمباشر سهل للشبكة الانخراط في جبهة الحقوق بطريقة مبتكرة وجديدة وهي التمسك بالحق الدستوري والقانوني الى النهاية، في هذا الصدد كلف المجتمعون مجموعة من 5 اشخاص كنت واحد منهم وللحقيقة لا اذكر المجموعة المنتخبة بالتحديد غير اننا كلفنا بالدعوة لاجتماع موسع نختار فيه من نختار للتشاور والمساعدة الفنية. أجتمعت المجموعة الموسعة في مبنى بالخرطوم اثنين كان مستاجرا لاحدى منظمات المجتمع المدني ، وكان العدد كبيرا تجاوز ال15 شخص بمن فيهم ال5 المختارين من الاجتماع التاسيسي. شبكة الصحفيين مجموعة سمتها السكرتارية (المؤقتة) مهمتها باختصار وضع خطة لطريقة معقولة وعملية وسلمية لايقاف الرقابة القبلية على الاعلام. الخطة العملية التي لجأت اليها اللجنة كانت ترتكز على توسيع نفسها لتشمل الصحافيين والصحفيات جميعهم وفي هذا ستقوم بالتوسع والتحدث الي الصحفيين والصحفيات في اماكن العمل، في صالات التحرير، جوار ستات الشاي ، في البرلمان والمؤسسات الحكومية ، في اثناء التغطيات والمؤتمرات الصحفية، كان عملا جبارا وحيويا وذكيا قام به ما يقارب ال20 صحفي وصحفية. خلال اسبوع واحد كانت عضوية اللجنة الموسعة تتحدث الي الصحفيين الاجانب والمحليين واعضاء البرلمان ومنظمات المجتمع المدني وكل من هو مشغول بالحقوق والعمل العام . جمعت اللجنة توقيعات 320 صحفي وصحفية، كل منهم ساهم مساهمات مالية كاشتراكات واستعداد للقيام باي مهام توكل له، تكونت بسرعة البرق ” رابطة الصحفيين البرلمانيين وكان الدينمو المحرك لعملنا في البرلمان، اللجنة السياسية الفرعية التقت بكل الكتل البرلمانية وسلمتهم احتجاجنا على موقف جهاز الامن من الرقابة في تعدي للدستور والقانون.
كانت القوة الفعلية لاي نشاط تقوم به الشبكة مسنود بعدد كبير من المحامين والقانونيين المحترمين في السودان، والشبكة لم تولد بعد، كانت تلتقي بالقيادات السياسية كلها في اوقات مختلفة من الليل والنهار ” ولا بتفرق معانا” نطرق ابوابهم منتصف الليل كما فعلنا مع فاروق ابوعيسى رئيس كتلة التجمع الوطني في البرلمان.
حددت السكرتارية يوم 17 نوفمبر للوقوف امام البرلمان لاختبار ما سمعناه من الصحفيين والكتل السياسية والمجتمع المدني، وان صدقت توقعاتنا ستتكون على اثر ذلك جبهة حقوق قوية وفاعلة.

كانت الفكرة تقوم على لفت الراي العام المحلي والعالمي الي ما يقوم جهاز الامن من تعدي على الحقوق الدستورية عنوة وغرور.
كان البرلمان يعقد جلسته التاريخية لاجازة ميزانية العام 2009 والتحضير لقوانين الانتخابات، الاستفتاء، الاعلام ، الامن الوطني وغيرها من القوانين. تجمع نحو 73 صحف وصحفية امام البرلمان منذ الحادية عشر ظهرا وكنا قد طبعنا لافتات وبوسترات ودعونا وسائل الاعلام العربية والعالمية وطلبنا من اعضاء البرلمان للخروج والتوقيع على بانر بحجم كبير تضامنا مع الحقوق الاساسية ووقف المخالفات الدستورية.
وقفنا قبالة البرلمان من جهة قصر الشباب والاطفال، دعونا المواطنين المارين بعد ان سلمناهم اعلان الشبكة مكتوبا للوقوف معنا والتوقيع علي اعلان نوفمبر.
من الجهة المقابلة كان واضحا لنا حشد الامن الاهوج يقودهم محمد عثمان المعروف للصحفيين. ولم نمكث طويلا حتى جاءتنا دورية الشرطة بكجرها المعروف يقودهم لواء تملأ كتوفه النجوم والعلامات المزيفة. قال لنا ” تجمعكم هذا غير قانوني” فجاءه صوت هادئ من اخر الصف” عن اي قانون تتحدث” سمعنا الجنرال مذهولا يقول ” شنو؟” جاءه الصوت الواثق مرة اخرى” قلت لنا تجمعكم هذا غير قانوني، ارنا القانون.. قلنا المادة كذا من قانون كذا.. لكن حتى لو معك قانون سري ما ، فنحن معنا الدستور.
بهت الجنرال ثواني معدودة ، ثم امر الجنود ” ارفعوهم”.
لم نكن نصدق ان هذا المجنون يامر العساكر ان يعتقلوا اكثر من 70 صحفي وصحفية لا يابه لما سيحدث. رفعونا وحشرونا حشر الي دفار واحد جاب بنا اقسام الشرطة في امدرمان ونحن نهتف بالحرية” . وصلنا الى قسم امدرمان الجنوبي وتركونا في الدفار وذهبوا يتحدثوا مع رئيس القسم الذي رفض استلامنا متسائلا” اودوهم وين ،،ما بتبلا بيهم”. ساقونا الي القسم الشرقي وفي الطريق استدعوا ضابط كان واضحا انه ” محرش”. جاء ووجدنا 70 صحفي وصحفية نفترش الارض والضابط المناوب محتار ماذا يفعل بنا، فسأل ” انتو منو وعملتو شنو ؟”
اجابه زميلنا علاء الدين بشير بطريقته الهادئة الرزينة ” شوف نحن ما عندنا مشكلة معاك وانت هنا كي تقوم بواجبك. الذين لديهم مشكلة معنا هم جهاز الامن والان هم يستخدمونك لانهم لا يريدون” وجه القبح” .
الضابط المتشنج الذي احضروه من بيته امر الجنود بان يفصلوا بين ” الاولاد والبنات” وان ياخذو هواتفنا وشرع في فتح بلاغات ازعاج عام ضدنا جميعا. طلب الضابط بطاقاتنا فصاح فيه حسن فاروق” يا زول هوي نحن صحفيين وما عندنا ليك بطاقات والعايز تعملوا اعملوا” سأل الضابط عساكره” ديل منو؟”
اثناء تواجدنا في دفار الشرطة قمنا باتصالات مع عدد كبير من غرف الاخبار العالمية وبالاخص رويترز والفرنسية وماهي الا دقائق حتى انهالت علينا الاتصالات، وفي لحظة ما شاهدت قرابة العشر زملاء وزميلات يتحدثون ويتواصلون مع وكالات ومحطات ومنظمات.
الحقيقة لم تكن التحضيرات للقيام بمظاهرة او وقفة احتجاجية وانما ايضا لبناء حجة قوية للراي العام وللعالم وللقوى السياسية المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية.
جاءنا الي قسم البوليس اعضاء كتل التجمع الوطني ، دارفور ، الحركة الشعبية والاهم جاءنا الناس. أحتشد الميدان بالاعلاميين والزملاء الذين فاتهم ” الدفار”.
ما بعد نهار ذلك اليوم كانت المحطات كلها تتحث عن اعتقال اكثر من 70 صحفي وصحفية مما جعل وزير العدل يرسل النائب العام لولاية الخرطوم لضمان اطلاق سراحنا فورا، لكن واجهتهم الاجراءات المتعلقة باطلاق السراح، كانت مشورتنا داخل السجن قد قادتنا الي اقتراحين” الاقتراح الاول ان نرفض الخروج من السجن حتى تحديد موعد للمحكمة وضمان استمرار القضية. كانت هذه المناقشة تجري وسط عساكر الشرطة والمساجين الاخرين وكانت تصلنا بطرق كثيرة مشورة زميلاتنا الصحفيات من الجانب الاخر. إقترح النائب العام ان نكتب تعهدات ونخرج بشطب القضية فرفضنا ذلك بالاجماع ، وإقترح علينا محامي دفاعنا ان نخرج بدون ضمان على ان نعود الى المحكمة بعد تحديد ميعادها، كنا نريد ان نذهب للمحكمة اولا لاننا نريد ان نحصل على حق اثارة المناقشة العامة لما يقوم به جهاز الامن والمخابرات من انتهاكات للدستور.
أُطلق سرحنا عند الظهر على ان يعمل المحامون مع النيابة لتحديد جلسة المحاكمة.
في الخارج كان جمهور غفير يتقدمهم نواب الكتل البرلمانية عدا المؤتمر الوطني ووجدنا مزيد من الزملاء. قررنا التوجه الى مبنى جريدة الصحافة لعقد مؤتمرنا الصحفي الاول واخبار وكالات الانباء والمؤسسات الاعلامية ما جرى. إستاجر لنا دينق قوج من صحيفة اجراس الحرية حافلات تقلنا الي مكان المؤتمر الصحفي.
