رأي

 فكي علي يكتب: مناحات ريد حزاينية

أنا لا أرثي الفنانين بُعَيْدَ رحيلهم، بل أرثي نفسي مِن خلالِ سفرهم عبر بوابةِ العوالم الغامضة، أرثي كل ومضة حياة تنطفئ في روحي إثر عروجِ أحدهم، لأنّ ما يربطني لا يقتصرُ على حُبّ الغناء، بل لأنّي مدينٌ لهم بتشكيلِ روحي وهويّتي ومزاجي النّزِق، فلقد تقلّبت حياتي بين أوتارهم الصوتية تقلّب الميّت بين يدَيْ مُغسلِه، ولي مع كل فنّانٍ سودانيٍّ قصة، قد تطول وقد تقصُر، ومع كُلّ حرفٍ موسيقيٍّ حكاية غرام، إلا الباش كاتب، لا تجمعني به قصة، بل هو قصتي التي سأرويها لأبنائي وأحفادي إن قدر الله لي كاملةً من المهد إلى اللحد.
مر بخاطري يوما ما طيفُ صديقي نظام الدين، فتذكرتُ تلك الأيام الخوالي، وكيف ذاك الحب أمسى خبرا، فآثرتُ الوقوف على أطلال أوَيْقاتِ أُنْسٍ أيِسَت مِن فرط تمسكنا بحياةٍ تلتقطِ أنفاسها الأخيرة في قلب الموت، فوقفتُ وأنشدْت مع ابن بُرَعِ اليمن بينما ما كان يُطْلِقُ عبرات الأسى على رِفاقٍ بالأمسِ كانوا هنا واليوم قد رحلوا، فأطلقت روحي مِن الأشجانِ ما كان سجينا، واستعدت من الذاكرة خاطرة ألمّت بي جراء خطرته قبل سنوات بعيدة، فأزجيتها له امتنانا وعرفانا، نعم سرى طيفُ مَن أهوى فأرقني ..
لا أجِدُ نفسي مجرد مستمعٍ لمحمد الأمين، بل ولا حتى عاشِقاً مُتولِّهاً تتلقفُه الأشواق وتباغتُهُ المواجيد الغريبة، فقصتي معه أعقدُ بكثير، والأمرُ أبعد من ذلك بفراسِخ ذوقية، حتى الآن لا أستطيعُ أنْ أُفَسِّر تلك الأحوال التي تعتريني عند ارْهافِ مجامِع الحِس له!! فـ كلما أومأتُ إطراقاً يُباغتني ‹انهمارهُ› في دمي.
هذهِ الكلمات يمكن أن تكون مدخلاً لسَبْرِ أغوارِ عِلّتي التي لم أرجُ شفاءها أبداً، تلك العلة اللذيذة التي قصّها عليّ صديقي العائد بعد غيبة طويلة في سرداب عزلة اصطفته ولم يتمنع عليها، عاد حينها نظام الدين إلى رحاب فضائنا الإسفيري فافترّ لمقدمه ثغرُ الشمسِ وتسربَ ضوء فرحتها بين فلجات السُحُبِ والغمائم، بعث إليّ برسالة قبل أيامٍ قليلةٍ مِن حفلِ أزمعه الباش كاتب بالنادي الروماني، جاء في متنها:
‹رأيتكَ وأنتَ تحلقُ واقفاً كلما اقتربتَ بفعل العود والموسيقى، وتعود لأرضِ الكرسيِّ بتعب السائحِ مِن المكوثِ كُلّمَا شاءَت الفواصِلُ انتظاراً. رأيتكَ وأنتَ لاترى في العالم إلا بأُذُنِ ذاتِك، مُكّدساً فيها من اللطافة مايكفيك هذا الزِّحام. رِفقاً بِكَ ياصاحبِي، أسكُبُ عليكَ مِن الطين قليلاً، تمهل في الطريق، وإن كنت أعلم أن الطريقَ إلى اللّٓهِ لاتحمِلُ في قواميسِ خُطاها التأنِّي. رِفقاً بنا ياصاحبي فلا نحمل أنْ نراك مشتعلاً تركُضُ بين صفحاتِ الفَناء كحياةٍ أبدية، فطيننا استمرأ الظاهِر، وماالباطنُ عندنا إلا مانُنْكِرُه، رِفقاً بالغناءِ ياصديقي، نحنا حالفين بالمشاعر..!!›.
وأتاتي زي رِمشن حزين بكّى الصباح
واتمسى بي حزنو المسا
لعل صديقي العائد بعد غيبةٍ طالت يدركُ وهو الخبيرُ بتحضير الأرواحِ الطيبة ما أجدُهُ في فنائي مِن خبَرٍ هناك حيثُ يتوقّفُ بَنْدول الفِكر الحائرِ بين ماضٍ انقضى ومستقبلٍ مبهم، هوَ يعي تماماً أنّ الفردَ مِنّا وبمجردِ انغماسِهِ في اللحظةِ الحاضِرة يكون قد وُفِّقَ إلى سِرّ الحياة الأعظم، حيث يستمتع بكمال حياة الفكر، وكمال حياة الشعور، وحيث ينتصر على المرضِ، والشيخوخة، والموتِ كما ذهبَ أستاذُ البِلادِ الكبيرة، وصاحب المقامِ المحمود في كُلّ قلبٍ سليم. لتحكيني حينها خواطِر الدكتور الكسيرة:
وابقى الوحيد زي بُلبُلاً
فقد الجناح هاجر جناهو على الصقيع
كاس لي بوادي مِشَمسَة
وارحل شواطي الغربة مغلوب بالرياح
وانحت حروف فوق الصخور واتحسسا
أُقِرُّ تماماً بأنّ هذا الحضور الطاغي لا يتملكني إلا عبر الموسيقى التي هيَ وسيلة تعبير الحواسِ عن ملكاتِها، فما هي إلا محاكاةٌ لأصواتِ أمنا الطبيعة، وعملاً بنصيحة إمامِ العارفين ‹النابلسي›:
واسمعِ النغمَةَ تَرْتَح
واغتنِم صوْتَ الملاهِي
وقتُنا نقْرةُ مِزْهَر
وغِناءُ العندليب
فإنّي قد حرصت على حضورِ كل محافلِ الباش كاتب ليس فقط لأتلذذ بالأغاني ولكن لأنّ أغانيه تُوَحِّدُ بنيتي وملكاتي، فأرى بذاتي وأسمع بذاتي وأتكلمُ بذاتي، ويصيرُ جسدي كلّهُ وحدةً واحدة في لحظةٍ واحدة، وهذهِ اللحظة أوسع بكثير من مفهوم اللحظة في الزمن الخطي، لا تدركها الفيزياء ولا ينبغي لها، بل هي لحظة بمفهوم الزمن الكوني، وهذا زمنٌ لا يمكن التوسُل إليهِ إلا بمعارجِ الموسيقى.
لطلما كذبت بشأن فتنتني بالأغاني أصالة لا كقنطرةً لتمرير اعتمالات الأفئدة بين العاشقين، فكم وددت أن تصحبني حبيبةٌ تشاطرني نشوة حضراته، أغازلها بأغانيه، وأعاتبها بأغانيه، وأتوسل مغفرتها بأغانيه، بيد أني فشلت في عقد صفقة حُبٍّ مع قدري، فكنت وحيدا تحتوشني زفرات العشاق الحرى صعوداً وهبوطاً مع تون الباش كاتب حتى رحل وتركني وحيدا كما جئته أول مرةٍ قبل عقدين، بالرغم من ابتهالي بأن يأخذ الله ما تبقى من عمري ليطرحها عليه، فلا فائدة تُرجى مني في وجوده فكيف أكون ذي بالٍ من بعده! والله لو بقدر أشيل من الزمن واهديك، بموت في لحظة واوهب ليك عقاب عمري ولكن ..
وآخر المطاف تأوه الأستاذ
وزي ريس الساري الغريق
غالب ليالي الشوق على الساري اتكا
وعندما يتأوّه محمد الأمين فإنه لا يزفر، ولا يحاكي ما اعتدنا عليه من أحوال الملتاعين في هجاء قدرهم تأفُّفا خجولا، بل هو يحمل عبء المنكسرين من حوله أحياءا وأشياءا، كأنها الطبيعة المنهكة تبث شكواها إلى بارئها “أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء!”، تشكو همها الثقيل عبر تلك الحنجرة المصقولة بعناية السماء، بعد أن امتزج حزنها الدفين بخلاياه، فطافت إثر خفقة فؤاده محمولةً على موج الدماء، لتعود هواءً ساخنا يكادُ بعدهُ أنْ يلفظ روحه عديل كدا!
ورش الدموع في رعشة القيف البكا
ودس الأنين فتق جراحات الحنين
في الغربة باسا ووشوشا
والغربة في قاموس الأستاذ هي غربة الروح لا الجسد، وقد فصّل ذلك في مواسم غربته، وهي أغنية آثر أن تظل حبيسة جلسات العود وإخوانيات السبعينيات، فلم يمنحها شهادة ميلادٍ بأي مسرح:
هِي إلا الغربة نتغرب!
نخلي ديار ونمشي ديار
ما هو الليلة متجاورين
وعايشين غربة جوا الدار
ياله من استراق نظرٍ عجيب لما آلت إليه أحوالنا أيها المستبصر العجيب! وكأنه ادخرها لهذه الليالي الحالكات، للزمان المر وساعات الخطر، فالجميع في هذا البلد تمزقهم خطاطيفُ الغربة المريرة، بيد أنّ لحظاته الأخيرة قد جاء مُصّفدةً بأغلالِ غربةٍ مُركّبة وكاملة الدسم، لا لشيء إلا لحبو للناس للوطن، ما غيرت ريدتو السنين وما بدل إحساسو الزمن حتى رحل غريبا.
كيف لي أن أنعيَهُ! أنّى لي ذلك بعد أنْ استغرقت ما فات من ساعاتٍ ثِقالٍ في مغالبة وجع المراثي التي دُبِّجت في طروسِ الأثير، شيوخٌ وكهولٌ وشبابٌ، فرقتهم نواميس الكون بفجوات الزمن، وارتكاسات القبائل والجهات، ومشارب الفكر والسياسة، واصطفافات الحرب، ولكن وحدهم رحيله، ربما لو سلمنا بخير في هذا القضاء فلن يكون إلا تلك الوحدة الشعورية الصادقة التي جمعت فُرقة السودانيين على حُزْنٍ سواء حتى ولو لساعات، وهذا أقصى ما تنشده الفنون، توحيد الأفئدة المتنافرة ولملمة شتاتها، كانت كما غناها هو نفسه مناحات ريد حزاينية.
كما لم تزعجني تلك الأصوات المتكلفة الواعظة، التي ناشدت الناعين أن يواروا أغنياته مع أحزانهم إلى الثرى مع إهابه خشية أن تلاحقه خطاياه التي عكف بكل حب على مراكمتها نيفًا وسيتن عاما! فقد نعته مشيخة الطريقة القادرية المكاشفية متمثلة في شيخ السجادة سليل الدوحة المكاشفية التي انتمى لها محمد الأمين وانتظم في سلكها علانية، سائلين الله أن يسبل عليه شآبيب الرحمة كما رحِمنا به، وبهذا النعي الجليل الذي اتصلت أنواره بالشكينيبة وأبو حراز فقد أُعلِنت أغنياته صدقةً جاريةً عنه لكل من ألقى السمع وهو شهيد حتى قيام الساعة، ولا ضرر ولا ضرار، وكلو زول بي عقيدتو، فالباش كاتب حبيب، والبحبو والما بحبو كلو حبيب.
كان يوم غريبا! عجزت عن البكاء مع رغبتي فيه، وددت لو لفظت روحي من وجع الغصة، كانت الدموع تتساقط وأسارع في كفكفتها كمن يجترئُ على جنايةٍ ويخشى أن يطلع عليه أحد، وددت لو تمكنت من إتمام طقوس الحزن كلها، ولا أدري أهو حزن أم لا؟ لم أتمكن من تعريف هذا الشعور السيئ الذي أطبق علي، ربما هو ما عناه مظفر النواب عندما قال:
مو حِزِن .. لكن حزين

اللهم ارحمه كما رحمتنا به واجزه عنا كل خير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى