ثقافة

مُترجمٌ في رِحَابِ بلاد الشُعَراء

بقلم: إكزافيه لوفان

ترجمة: د. عاطف الحاج سعيد

هل كان يتطلع المترجمُ المتواضعُ الذي هو أنا في إقامةٍ أكثر متعة من أن أمضي أسبوعاً في ولاية النيل الأزرق ومنطقة البطانة بلدُ عددٍ من الشعراء الشعبيين برفقة روائي وشاعر سوداني قبل أن ألتقي بسلسلة من الكُتّاب في الخرطوم؟  لم أستطع صدّ نفسي خلال خمسة عشر يوماً من أن تربط بين كلّ حي سكني، كلّ مشهد من مشاهد الحياة اليومية، كلّ مَعْلَمٍ بمقاطعٍ من رواياتٍ وقصص قصيرة سودانية قرأتها وحتى ترجمتها في وقتٍ مضى. بدأ هذا الأمر منذ وصولي إلى مطار الخرطوم الذي دار فيه مشهدٌ مفتاحي لرواية يعقوب آدم سعد النور الموسومة بـ “نظرةُ اشتهاء”.

عزمتُ قبل ثلاثة أشهر أن أحققَ حُلماً قديماً يعود لسنوات عديدة وهو أن أزور السودان وأن أرى بعينيّ مناظر ومشاهد الحياة اليومية التي وصفها أولئك الكُتّاب الذين تَرجمت لهم بعض قصصٍ قصيرة وروايات: أحمد الملك وأمير تاج السر وعبد العزيز بركة ساكن ورانيا مأمون. يجب القول ان اهتمامي شبه الاستحواذي ببلدٍ لم أزره على الإطلاق أصبح موضع اشتباه حتى بالنسبة لأقربائي: كيف أفسر عشقي للأدب السوداني واتصالاتي شبه اليومية عن طريق الهاتف والبريد الإلكتروني مع كُتّاب يقيمون في الخرطوم والدمازين وواد مدني وحتى في دُبَي أو أمستردام؟

عندما أصل السودان أكتشف أن هذا العشق يبدو أيضاً مُستغرباً من قبل هؤلاء الكُتّاب؟ قمت بكل تأكيد بتجهيز بعض تفسيرات لهذا الوله والتي تبدو لي معقولة جداً وكان أكثرها إرضاءً في نظري هو أن السودان يقع في تقاطع الطرق بين العالم العربي وأفريقيا وهما إقليمان يمثلان موضع اهتمام بالنسبة لي بصورة خاصة، إذاً يتيح لي السودان أن أجمع بين العشقين. يشير لي أحد محدثيّ أن هذا التفسير غير معقول في الواقع. في نهاية الأمر، لقد لُفِظَت الكلمة: عشق. لكن العشقُ لا يفسر، العشقُ يُعاش ببساطةٍ.

قررت إذاً أن أحاول خلال هذه الخمسة عشر يوماً رؤية أكبر عدد ممكن من المشاهد التي قرأتها وترجمتها في الغالب أيضاً، ولم أحبط. من بين الشخصيات التي تتواتر كثيراً في الأدب السوداني تبرز بائعة الشاي. مهنة نسائية بامتياز تُمَارس على أرصفة الخرطوم وبائعة الشاي هي امرأة غارقة في ثوب (اللباس النسائي التقليدي وهو عبارة عن قطعة قماش كبيرة تمتاز بألوان حية) أمامها كشك صغير تضع عليه شاي وسكر ولبن بودرة وبهارات وكعك وتقدم للعابرين أكواب شاي بسعرٍ ضئيل. منذ يومي الأول في الخرطوم اصطحبني صديقي عبد العزيز بركة ساكن لاحتساء كوب من الشاي عند واحدة من بائعات الشاي المفضلات لديه في وسط الخرطوم ليس بعيداً عن المركز الثقافي الفرنسي.. أية بهجة! لم أذق شاياً بهذا الطعم من قبل. لونه أحمر جميل سُكّره مضبوط كما ينبغي – أتحدّث فقط من وجه نظر تذوقية وليس غذائية.

قابلت كذلك شخصيات أخرى خرجت للتو من قصص استيلا قايتانو أو من روايات منصور الصويم مثل الشحاذين الصغار وبائعي مناديل الورق الذين ينتشرون في تقاطعات طرق وسط المدينة. الانطباع الذي يُسْتَخلص من هذه اللقاءات كان بالطبع أقل لطفاً من الشاي الذي احتسيناه من قبل. وكما توقعت للأسف لم يتطرّف الكُتّاب فيما وصفوه على الإطلاق: أطفال صغار في أسمال بالية قذرون وفي الغالب معاقون، مجبرون على إمضاء النهار في استنشاق غاز عوادم السيارات الكثيرة التي تحتشد بها شوارع العاصمة قبل أن يغادروا للبحث عن مأوى ليمضوا فيه الليل تحت حائط مسجد أو في واحدة من مدن الصفيح التي تحيط بالعاصمة.

طلبت من محمد، سائق التاكسي الذي يلخص لطفه لوحده حسن ضيافة السودانيين، أن يصطحبني لسوق أمدرمان وفي طريق عودتنا طلبت منه أن يصطحبني إلى أمبدة. “أمبدة؟ لكن لا شيء جدير بالمشاهدة في أمبدة”. أوضحت له أنني قد قمت بترجمة مقطع من روايةٍ لخالد عويس وأن هذا المقطع يُفتتح باسم هذا الحي الذي هو عبارة عن عدد من المنازل الطينية في أطراف العاصمة يسكنها النازحون، وهم مئات الآلاف من السودانيين الذين شردتهم الحرب الأهلية خلال العقود الأخيرة. كنت أبحث عن منزل (ميري) واحدة من بطلات الرواية. ربما يكون أي واحد من هذه المنازل الطينية التي تتقاطع أمام ناظرنا. أخذت بعض الصور في الخفاء، كانت تزعجني رغبتي في التلصص التي تكتمها بنذالة رغبتي في البحث بوصفي قارئاً مُترجماً.

يسكنني ذات الفضول عند خروجي من الخرطوم، ابتداءً من قرى (بِلالة) ذات القطاطي الدائرية ـ قَدِم سُكَانها من تشاد لأداء فريضة الحج في مكة وفي طريق عودتهم استقروا في إقليم القضارف في وقتٍ كانت رحلة الحج تستغرق عشرات السنين وكنت قد ترجمت حكايتين عنها جمعهما عبد العزيز بركة ساكن ـ وأشجار العُشر والتبلدي والنيم التي يرد ذكرها كثيراً في الأدب السوداني. لقد رأيت مؤكداً على الإنترنت ماذا تشبه شجرة النيم، لكن تأملها في الواقع ومداعبة لحائها واستحسان أوراقها التي تهدهدها الريح هو واحد من المتع الصغيرة التي عشتها أثناء هذه الرحلة.

بكل تأكيد أحبطتني قليلاً بعض الأماكن التي زرتها. تخيلت بسذاجة أقر بها أن السوق العربي يشبه الأسواق النشطة التي توجد في معظم مدن العالم العربي. لكنه في الحقيقة عبارة عن سلسلة من الطرق رُبِعت في العهد الاستعماري دون أن تكون لها جاذبية خاصة وفي الغالب مزدحمة مثل بقية المدينة. لكن هذه الإحباطات الصغيرة سريعاً ما أنساها طالما تمتلئ عيناي بالصور تقريباً كل لحظة.

زرت أيضاً بعض الأماكن التي لم أخطط لزيارتها لكنها تغرقني أيضاً في صفحات رواية من الروايات السودانية. كان لدينا، شخصي وبركة ساكن، موعد مع صحفي من راديو أمدرمان الذي تقع أستوديوهاته بمباني الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون. أتذكر في الحال أن الصفحات الأولى من رواية “الخريف يأتي مع صفاء” تصف اللحظات الأولى لانقلاب عسكري توجّه خلاله الرئيس القادم إلى مبنى الإذاعة: “ففي الثلث الأخير من تلك الليلة ارتدى ملابسه العسكرية الكاملة وطاف شوارع العاصمة، فاكتشف أن الوطن كله كان نائماً (…). اقتحم الإذاعة دون أدنى مقاومة من الحراس الذين كانوا نائمين في مقاعدهم، في الداخل لم يجد سوى مذيع واحد مستغرق في النوم أزاحه بقدمه وأمسك بالمايكروفون فاستيقظ الوطن كله على صوته الأجش: “انقلاب عسكري”.

في القضارف، وهي مدينة جميلة مُكوّنة من قطاطي دائرية على مدّ البصر وتقع في سهل كبير يفسده بصعوبة جبل صغير له اسم غريب (تيواوا) ــ وهو أول نتوء بارز يُرى عند الاقتراب من المدينة في نفس الوقت نرى صومعة كبيرة ــ قمت أيضاً باكتشاف غير متوقع فقد زرت مع بركة ساكن وأصدقاء آخرين قطية لها خصوصيتها فقد سكنتها (باتريسيا) وهي امرأة ألهمت بركة ساكن قبل سنوات واحدة من قصصه الرائعة (طفلان وباترسيا). لم أكن أعلم أن (باتريسيا) قد وجدت حقيقةً ولا أن قطيتها والسياج الذي يحيط بها مازالا موجوديْن.

أُتيحت لنا الفرصة كذلك لإمضاء عصرية لا تنسى في ضواحي مدينة القضارف، جلسنا على الحصير وسط الحقول الجميلة نستمع لبعض الشعراء المحليين الذين ينتمون لقبيلة الشكرية. غنى لنا واحد منهم يحمل ربابة وهي آلة موسيقية لها أوتار تقليدية توجد كذلك في مصر، مقاطع طويلة من الدوبيت وهو قصائد بالعربية العامية المحلية وهو مصدر فخر للقبائل العربية التي تسكن سهل البطانة. يقول الحاردلو، وهو من أشهر شعراء الدوبيت:

شعرا ريش نعام والوجه سمح مصقول

وعنقا صب قزاز صانعنو في اسطنبول

اكتافا هدل والليد تقول مجدول

قامت في القياس بين القصر والطول

ثم كان هناك الأشخاص الذين لم أستطع مقابلتهم والأماكن التي لم أستطع زيارتها، بعضها اختفى. فقد علمت بدهشة وحزن أن حديقة الحيوان بالخرطوم والتي دار فيها مشهد مضحك من مشاهد رواية “الخريف يأتي مع صفاء” التي كتبها احمد الملك ومشهد آخر كذلك مُسلٍ في الرواية الأخيرة للروائي الأريتري أبوبكر كحال، قد أزيلت قبل بضع سنوات، إذاً لن يكن بمقدوري أن أرى الأسد الذي أصبح بطلاً غصباً عنه في بعض صفحات هاتين الروايتين. أحببت كثيراً أن أصادف قطاراً أثناء تنقلاتي في شرق البلاد، قطاراً مليئاً بالركاب حتى على سطحه والذي بوصفه يفتتح منصور الصويم روايته “ذاكرة طفل شرير”. لكن وآحسرتاه كثيراً ما رأيت السكة الحديد في واد مدني وأماكن أخرى لكن لم أرَ أية قاطرة ــ أغلب خطوط السكة الحديد لا تعمل لذلك فهمت جملة أحمد الملك المليئة بالسخرية والمرارة: “رمق خطوط السكة الحديد التي مر عليها آخر قطار عبر البلاد ناقلاً جنود اللورد كتشنر في نهاية القرن التاسع عشر”.

تمنّيت أيضاً رؤية صائدي الأسماك الذين يستخدمون الصنارة يحاولون اصطياد أسماك البلطي على ضفاف النيل الأزرق مثل أولئك الذين تحدث عنهم أحمد الملك. أخبرني الأصدقاء أنّ هؤلاء الصيادين لم يختفوا لكن الوقت لم يكن موسم الصيد ذلك لأن ماء النهر معتكر بالطمي. تمنيت كذلك أن أتذوق (المريسة) التي تصنعها بصورة سرية النازحات واللاجئات وهن أيضاً حاضرات في الأدب السوداني، لكن سأفعل ذلك في رحلتي القادمة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى