لم يحضر الترابي التسوية التي انتظرها طويلا مع الولايات المتحدة الامريكية، اذ حدثت بعد اقل من عام على رحيله المفاجي، كما انها حدثت بطريقة غير التي عمل لها سنوات طويلة.
يظن كثير من الناس ان الترابي هو سبب القطيعة مع امريكا، الا ان اي متابع لسيرته الدقيقة يجد ان الترابي عليم بقوة الولايات المتحدة، وملم بادق تفاصيل حياتها الداخلية، والعلاقة بين الترابي والولايات المتحدة بدأت مبكرا منذ سنوات الطلب اذ ان اول زيارة قام بها الترابي لامريكا كانت ايام دراسته للدكتوارة في باريس، ولانحتاج للتذكير بان الترابي هضم حضارة الغرب عبر المعايشة والدراسة واجادة عدد من اللغات الاروبية الامر الذي جعله منفتحا على طريقة تفكير الغربيين.
قناعة الترابي بقوة الغرب وخصوصا الولايات المتحدة تمثلت في رعايته لكوادر الحركة الاسلامية وتركيزه على ان ياخذوا نصيبهم من الدراسة في الولايات المتحدة عبر الاستغلال الامثل لالية الابتعاث التي وفرتها الدولة في السابق” توقفت هذه الالتزامات عندما وصل الاسلاميون للحكم”
عندما وصل الترابي للحكم حاول فتح قنوات للحوار مع امريكا عبر تقديم نفسه كزعيم للمنطقة العربية والاسلامية وقائد للقوى الاسلامية الصاعدة الامر الذي لم تعترف به الولايات المتحدة في ظل وجود حلفاء تقليديين في المنطقة من رجال السياسة والمخابرات ،وبدا الترابي في ارسال رسائل متتالية في بريد الولايات المتحدة مفادها ان السياسة تتحرك في المنطقة والجماعات الاسلامية اصبحت لاعب اساسي وتمادى الترابي في تجاوز الخطوط الحمراء بتحريكه لمجموعة من الاسلاميين لاحداث اضطرابات ذات طابع ديني وعرقي في الولايات المتحدة. ثم اسس في عام 1991م المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي الذي يضم ممثلين من 45 دولة عربية وإسلامية،وانتخب الأمين العام لهذا المؤتمر، وبدا في اتخاذ خطوات سياسية لاتتفق مع تصورات الولايات المتحدة للمنطقة.
وفي تلك الايام جمعت الخرطوم مزيج من الثوريين والاسلاميين والقوميين وغيرهم من الذين لاحت له الخرطوم كجزيرة ثورية، ولكن خطة الترابي كانت تهدف لشي اخر من تجميع هذا المزيج المتشابه المتنافر، فقد كشفت مراسلات عديدة ان الترابي كان يرسل رسائل متوالية للامريكان عن خطورة هذه المجموعات التي وضعها تحت جناحه ويقول البعض ان اكبر الاخطاء الاستخباراتية التي وقعت في امريكا في العقود الماضية يتمثل في اصرارها على الاستمرار في الطريق القديم. وبالتالي لم تترك امام الترابي الا السير في طريق المواجهة ولاسيما ان خطة زعامته للمنطقة كانت قائمة على تصوره في اجبار امريكا على التحالف معه. وفات على فطنته ان امريكا لاترغب في حلفاء بل في موظفين ينفذون استراتيجية ترسم في “في البيت الابيض ولانغلي” وينفذها ملايين الساسة على امتداد كوكب الارض.
تورط الترابي في مواجهة لم يكن مستعد لها، اذ ليس هنالك مايشير الي ان الترابي كان ناقما على امريكا، بل ان كل خطبه وحوراته ونصائحه لتلاميذه مملوءة بقناعة واضحة عن ضرورة التواصل مع هذه القوى والنهل من معينها ، ولكن اصراره على ان يكون الرجل الاول لامريكا كان يخالف رؤية امريكا للمنطقة وهي خطة تقيم السودان كدولة طرفية فقيرة بغض النظرعن ذكاء وامكانيات الترابي وطموحه العريض وبالتالي لايمكن المخاطرة بمنحها دور اكبر من حجمها في معادلات المنطقة المعقدة جدا.
رحيل الترابي الطموح اعاد الامور الي نصابها فبعد كل هذه السنوات يطوي تلاميذه الارث المشاكس الذي وضعه شيخهم ويعودون للعمل وفقا لقواعد اللعبة التي تحدد لكل شخص مكانه في المصفوفة الدولية.
رحم الله الترابي فقد كلفتنا طموحاته اثمانا باهظة.