
1
في الحوار الذي أجراه الصحفي فتح الرحمن شبارقة (من أذكى الصحفيين في التقاط الحوارات النوعية في وقتها) مع الإمام السيد الصادق المهدي استوقفتني محطتان من الماضي إلا أنهما تلقيان بظلالهما على المستقبل. ما يجعل لهاتين الإفادتين قيمة تاريخية ومعرفية هو أن السيد الصادق يعترف فيهما بأخطاء في ممارسته السياسية ثم يطرح معالجات، هذه المعالجات هي موضوع حوارنا مع سيد صادق.
2
يقول سيد صادق: “إن أكبر أخطائي أنني لم أدرك في الوقت المناسب أن الديمقراطية الليبرالية لا تعمل في ظروف بلادنا ما لم تسبقها شروط أهمها: أن تكون هناك توازنات لمسألة الولاءات الموروثة. وأن يكون المتنافسون في المجال السياسي مؤمنين بالديمقراطية لا مستغلين تسامحها للتآمر عليها. وأن تكون القوى الاقتصادية كالنقابات ملتزمة بعقد اجتماعي. وأن تكون القوات المسلحة ملتزمة بقانون الانضباط وليست عرضة ليستغلها السياسيون الانتهازيون”.
المدهش في هذه الإفادة أن سيد الصادق لا يزال يدعو بإلحاح إلى إعادة النظام الديمقراطي ولم تتحقق أي من تلك الشروط التي ذكرها، وليس من الممكن تحققها من دون بيئة مهيأة للانتقال، وتلك تسلتزم سنوات من التأسيس المضني. فمثلا لا يمكن إلغاء الولاءات الموروثة أو فرض توازنها، فتلك عملية اجتماعية معقدة تستحيل هندستها لتلبي شروط الديمقراطية، كما أن مسألة الإيمان بالديمقراطية دعوة قديمة ظلت الأحزاب تتحدث عنها نهارا في البرلمانات والندوات والصحف وتستعد بالليل للانقلابات، ليس هناك ما يضمن أن تلك الأحزاب تغيرت وأصبحت أكثر تسامحا، لا شيء يدل على ذلك، فهي فاقدة للديمقراطية داخلها مما عرضها لانشقاقات بلا حصر.
3
في الديمقراطية الثالثة حاولت الأحزاب والنقابات أن تصنع سياجا حاميا للديمقراطية فأصدرت ما عرف بـ(ميثاق الدفاع عن الديمقراطية) بهدف منع الانقلابات وأذاعوا أنهم سيعلنون العصيان المدني مع أول موسيقى عسكرية، تلك الفكرة انهارت مع البيان الأول فجر يونيو 1989، إذ لم يدافع عن الديمقراطية أحد. أما مسألة التزام القوات المسلحة بالقانون، فدائما كان هناك قانون لها لكن ذلك لم يوقف الانقلابات، فكيف تلزم بالقانون وهي تملك كل أسباب القوة؟.
الوصفة هذه التي قدمها السيد الصادق لعلاج أخطاء الماضي لنواجه المستقبل، عاجزة عن تقديم حلول مبتغاة، لابد من بحث أعمق عن نظام ديمقراطي يستوعب المرحلة التاريخية التي نعيشها. للأسف، النخب بدلا من استثمار وقتها في التفكير للخروج من المأزق تنفق معظمه في التآمر والمكايدات.
4
من الواجب الإشارة إلى أن سيد الصادق بدأ منذ الستينيات يشير إلى مآزق النظام الديمقراطي في نسخته الوستمنسترية ثم قدم مساهمة مميزة في كتابه (الديمقراطية عائدة وراحجة) رغم أن الكتاب أغلبه كان رصدا توثيقيا لإنجازات فترة سيد صادق في رئاسة الوزراء (86 – 89)، مع إشارات لخيبة النظام الديمقراطي والتي أسندت في عامة الكتاب لآخرين، إلا أن وصفته لاستدامة الديمقراطية وضرورة ربطها بقضايا التنمية العادلة فئويا وجهويا وتصويب النظر للإصلاح الحزبي والإعلامي كانت أكثر ثراء وعمقا مما طرحه بالحوار.
هناك مساهمة مهمة أيضا للمفكر البعثي عبد العزيز الصاوي في كتابه الأبرز (ديمقراطية بلا استنارة) وعبر كثير من الكتابات التي قدم فيها مساهمات رائعة في كيفية تطوير النظام الديقراطي، نستعرضها في وقت آخر، إن شاء الله. هناك آخرون بالطبع لهم مساهمات ثرة ولكن لازلنا نبحث عن آفاق أخرى للديمقراطية غير تلك التي عرفنا في ثلاث مراحل من تاريخنا، ولكي تصبح جسرا للعبور إلى آفاق جديدة من التنمية والاستقرار وليست جسرا لعبور الدبابات