عبد الله الشيخ

المياه الإقليمية لـ”أهل الله!”

عبد الله الشيخ

قد تقع الغارة دون أسباب محسوسة، وبين أولياء لا يربطهم عصر واحد.. قد تكون الغارة في رؤيا، يأخذ فيها الولي هيئة موتيفيا تاريخية، كأن يُرى أو يتبدّى الولي في هيئة أسد أو ثور أو تمساح، أو أي رمز تاريخي مقدس يطل به من زمان غابر، على ولي معاصر.
وقد تستخدم في الغارة أسلحة معروفة للناس، وأخرى غير محسوسة، كأن يُقتل الولي بمجرد وقوع عين المغير عليه، أو يُسلب بمثوله أمامه.. وفي قصة الشيخ دفع الله ود ابو إدريس، والشيخ مدني بن دشين صورة من هذا، فقد قال الشيخ مدني حين رآه: “الرجال تلد البحور”.. أنظر، الطبقات، ص329… فكان أن مات الشيخ دفع الله، وبكاه أبوه وهو يقول إن ابن دشين قتل ابنه..
ورغم خصوصية الغارة كفعل روحي خارق، فإننا نستطيع القول إن من أسبابها عدم مراعاة دواخل الولي واختلاجات قلبه بإتيان أفعال لا تراعي مقامه وحرمته.. قد يغفر الولي لمن تجاوز الحدود جاهلاً أو مكرهاً، لكن من يبحر في «المياه الإقليمية» للأولياء- إن جاز التعبير- يُنَكَّل به.
كان الأولياء في زمان الفونج يحرصون على مراعاة الآخر، من ذلك، إتقاء الشيخ محمد بن عبدالله الطريفي لغضب الشيخ حمد بن الشيخ دفع الله، فكان يُنكِّس رايات موكبه ويدخلها إلى «الجراب» حين يشارف الدخول للزيارة، وتكشف أرواح الأسلاف للشيخ محمد نبأ قدوم زائره.. أو هو يعرف الداخل في «مجاله المغنطيسي»، فيخرج لاستقبال زائره بالبشر، يعانقه، ويقبِّل رأسه، ويخرج الراية المخبوءة ويرفعها، ويسيران. وإن جاز لنا تجريد الغارة من أغلفتها القدسية سنرى أن النساء كن المحرك الكامن للصراع في ذلك الزمان القبلي. فالأنثى في المزاج العرقي والعقدي هي رمز الإلتزام بالمقدس، وهي سبب مباشر في اشتعال نيران الغيرة والتنافس بين صب وآخر.. الغارات بالرغم من كونها فعل روحي، لكنه لم يتحرر من التسيُّج بقيم ومفاهيم القبلنة المندغمة في التطرُّق، والمتجذرة أصلاً في الذات السودانية.
لعل أشهر الغارات المرصودة من عهد الفونج، قد كان بطلها الشيخ باسبار السكري، الذي يصفه ود ضيف الله بأنه كان غيوراً.. وقعت غارة الشيخ باسبار ضد زوج طليقته، لأن الزوج الجديد لم يأخذ بنصح شيخه عبدالرازق ابو قرون .. وكان نصح الشيخ عبدالرازق قد نصح الرجل ألا يتزوج طليقة الشيخ باسبار لأنه رجل غيور.. لكن الرجل أبى النصح، وفي نفس الوقت، طلب الحماية من الشيخ عبدالرازق، أي أنه احتمى، أو طلب أن يكون وقيعاً في حمى الشيخ عبد الرازق كي يصد عنه الأذى، في معنى أن الرجل كان يُدرِك خطورة الفِعلة التي أقدم عليها… وعده الشيخ عبدالرازق بالحماية من غارة الشيخ باسبار إن التزم البقاء في البر وعدم الاقتراب من ماء النيل.. «فقال له: لا تقرب البحر الناس بحريين»، اي لا عاصم من غاراتهم فوق الماء.. بعد سبع سنوات اضطر الرجل إلى ورود النيل لحضور عقيقة ولده من تلك المرأة، فما أن أدخل رجله في الماء حتى اختطفه تمساح.. وكان ذلك التمساح أحد تلامذة الشيخ باسبار!. يصوِّر ود ضيف الله المشهد في طبقاته ويقول: «اختطفه تمساح فعضه حتى مات ثم رماه على ساحل البحر، وباسبار تحت السدرات صاح: شالو ولدي علي».. أي أن الشيخ باسبار لم يُنفِّذ الغارة بنفسه، وإنما فعلها تلميذه علي ود برّي..!
في هذه الغارة ترى تأدب الشيخ عبدالرازق مع الشيخ باسبار في تعهده بالحماية للمستجير في البر فقط، ولم يتعدَّ إلى نفوذ نده في النهر، التزاماً بآداب «دخول الحمى».. ولأن الرجل ركن إلى عواطفه، لقي حتفه.
اخر لحظة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: شارك الخبر، لا تنسخ