فورة حماس العصيان ينقصها الوعي:
كشفت فعاليات العصيان المدني والحراك الجماهيري الذي سبقها، صاحبها، ثم تلاها، القوام الهش للوعي وللفكر السياسي الذي يسود وسط قيادة وقواعد القوى الشبابية غير المنظمة التي طرحت وقادت مبادرة العصيان المدني في يومي 27 نوفمبر و19 ديسمبر. فبقدر المد الثوري العالي الذي أحدثه نشاط هذه القوى، والآمال التي بذرها في نفوس الشعب السوداني، بقدر ما حيره، وأدهشه بؤس حصيلة هذه القوى من الوعي والفكر الذي أنعكس في خطابها المبذول في وسائط الاتصال. ولا أقول ذلك نفضا لليد من هذه القوي الشبابية أو تخذيلا، وانما أخذا بيدها ودعما لها عبر مساعدتها في رؤية الخلل في مناهج تفكيرها وعملها، وإنارة الطريق أمامها حتى تتمكن من التصدي لدورها الوطني على علم ودراية و على الوجه الأكمل. إعجابنا بضخامة ما إجترحه الشباب من مبادرة العصيان وتأييدنا لها، لا يجب أن يمنعنا عن توجيه النقد لهم وتبصيرهم بالأخطاء التي تورطوا فيها، بل على العكس، يجب أن يدفعنا هذا الإعجاب و ذاك التأييد، الى الحرص على توجيه النقد لهم، وتقديم المقترحات، و وضع أيديهم على ما هو ضروري لنجاح مسيرة المقاومة والثورة.
إرادة التغيير، مقابل فكرة التغيير:
شاهدت واستمعت الى العديد من الفيديوهات الحية لقادة ونشطاء العصيان، وقرأت عشرات البوستات في الفيس بوك ومئات المداخلات من الشباب، بناتاً و أولاداً، من القائمين على أمر العصيان والذين ما زالوا يتداولون حول انجع السبل لتطوير حراك المقاومة. وقفت على الأفكار الرئيسية التي يتداولونها، والأفكار المعارضة لها وأوجه الاختلاف، و وصلت الى النتيجة التي يعلنها عنوان هذا المقال: فورة حماس العصيان ينقصها الوعي السياسي.
ما لا شك فيه هو أن غالبية هؤلاء الشباب قد جمع بينهم شعور وطني جارف ملخصه أن الأوضاع السياسية في السودان، وتحديدا الوضع الذي يمثله نظام المؤتمر الوطني يجب تغييره بإسقاط النظام. دوافع هذا الشعور هو أنهم أحسوا وشعروا بمرارة الواقع المعيشي، وفساد نظام الحكم ، وفقدوا أي أمل في الاصلاح في ظل هذا النظام. هذه خطوة كبرى و نقلة جبارة، لقد توفرت عندهم أولى شروط الثورة وهي إرادة التغيير، ولكنها غير كافية لتحقيق ثورة ناجحة فلا بد لإرادة التغيير من أن تستكمل بمعرفة وسائل التغيير والعمل على امتلاك تلك الوسائل، أي فكرة التغيير، وذلك هو الوعي السياسي. ولا سبيل الى الوعي السياسي الا بالعمل السياسي المنظم، ما يعني العمل في أحزاب وتنظيمات سياسية. إن إرادة التغيير عند الجماهير يمكنها أن تسقط الحكومات و أن تهدم النظام الفاسد ربما ، ولكن لا يمكن لها أن تنجز ثورة ناجحة دون رافعة سياسية، أي دون جهة منظمة على أساس سياسي. تريدون مثالا؟ خذوا مصر.
التنظيم هو أعلى درجات الوعي كما جاء في مباحث علم الثورة. لا يرفض التنظيم الا المراهنين فقط على مشاعر الغضب وأحاسيس الغبن لدى الجماهير، وهي مراهنة فوضوية ترهن مصير الشعوب على موجات المزاج اللحظي للجماهير. أيضا لا ديمقراطية بلا أحزاب سياسية. هذه بديهيات الوعي السياسي الذي ينقص شبابنا ضمن الحراك الراهن لدرجة التباهي عند تقديم أنفسهم بأنهم لا ينتمون الى حزب وأن لا تجربة سياسية لهم، أي أنهم يفتخرون بأكبر النقائص والعيوب في من يتصدى للعمل الثوري. صحيح أن أحزابنا تعاني من الضعف والهزال والتشتت، وعجزت حتى الآن عن بناء مركز موحد للمعارضة، لكن تظل الحقيقة في أن الأحزاب هي القنوات الوحيدة للممارسة السياسية و أدوات التنافس الديمقراطي لتولي السلطة ولا سبيل الى تجاوزها الا عبر الأنظمة الديكتاتورية الشمولية كنظام المؤتمر الوطني. فإذا كانت هناك مجموعة من الشباب لم تجد ما يستجيب لفكرها وطموحاتها من الأحزاب ، فعليها تكوين حزبها الذي يلائمها والإنخراط في مواجهة الواقع بدلا عن الرفض السلبي للأحزاب.
خطاب شباب العصيان توفرت له إرادة التغيير وشعر بها، دون أن يعرف وسائل هذا التغيير، أي قصر عن بلوغ مرحلة الوعي، فظن أن ما توفر له هو نهاية مطاف المطلوب من الثوار، . بدأ في استخدام هذا الخطاب بثقة عالية، طرح شعارات معادية للأحزاب، وشعارات عاطفية لنبذ العنصرية، وضرورة الوحدة، وفي خضم هذه التعبئة البريئة فوجئ الشباب بمناورة الأجهزة الأمنية للنظام أثناء التحضير لعصيان يوم 19 ديسمبر ما أثر على حصيلة فعالية العصيان. ثم بدأ واضحا أن قيادة الشباب ليس لديها خطة للمقاومة، فتساوت القيادة والقاعدة في معرفة ما هي الخطوة التالية؟ بل لجأت القيادة لسؤال القاعدة عن اقتراحاتها. ثم تفاجأ الشباب ببديهية أخرى في العمل العام حين تساءل الناس عن قياداتهم وتاريخهم، وواجههم شباب الأقاليم بأفكار جهوية إنفصالية، فأزعجهم الأمر وشتت أفكار بعضهم، وكل هذه الاشكالات تجد معالجاتها في صميم العمل السياسي والتنظيمي الذي يستنكف عنه هؤلاء الشباب.
إن مشروع الإنتفاضة الشعبية الظافرة ضد نظام المؤتمر الوطني ما زال ينتظر استكمال شرطه الذاتي، وهو وحدة قوى المقاومة التي تمثلها القوى السياسية في البلاد، الأحزاب، الحركات، الجبهات، النقابات، قروبات الشباب، قروبات النساء، منظمات المجتمع المدني، فإن كانت هذه الوحدة غير قائمة الآن، فواجب السعي في بنائها يقع علينا جميعا بما فينا قروبات الشباب، و ليس لأحد أن يتنصل من هذا الواجب ويلقي باللوم على الآخرين.
إن مقاومة وإسقاط أي نظام سياسي هو عمل سياسي. فيا شباب العصيان إن تصديكم للنظام هو عمل سياسي ومواصلتكم للنضال عمل سياسي أيضا، فإن أردتم إكمال مشواركم الثوري لإسقاط النظام وبناء البديل الديمقراطي عليكم بنبذ الخطاب الغريب و الساذج المتبرئ من السياسة والأحزاب، فأنتم سياسيون كونكم تسعون الى التغيير السياسي. ثم أعلموا أن لا ديمقراطية بلا أحزاب سياسية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في نقد الفكر اليومي، هو عنوان كتاب للمفكر الشهيد اللبناني مهدي عامل، وقد كان في الأصل نقد لأعمال ندوة سياسية عقدت بالكويت في الثمانينات. جوهر الإجراء النقدي الذي أنجزه مهدي عامل تركز حول تفكيك المفاهيم اليومية، البلدية، السوقية، المتوفرة في سوق السياسة في المنطقة العربية والتي تهمل عن عمد الابعاد التاريخية والطبقية في نظرتها للواقع السياسي والاجتماعي وتسعى الى طمس طبيعة الصراع وتغبيش الرؤيا لدى الجماهير. أستعير هذا العنوان لأنشر تحته سلسلة مقالات قصيرة متوالية تعالج القضايا الفكرية والسياسية الهامة التي تطرحها حركة المقاومة الراهنة في السودان.