
وأنت تتجول في بعض المدن الأفريقية لا تشعر بأنك غادرت حدود السودان ، ملامح الناس وسلوكهم العام وشكل المعمار كلها تتشابه . ولا غرابة في ذلك فقبل العام 1884 م ، تاريخ مؤتمر برلين ، والذي على ضوءه قُسِّمت إفريقيا لوحدات أصبحت هي حدود للدول الحديثة . قبل ذلك التاريخ ، حسب المؤرخين ، كانت المسافة الممتدة من السنغال وحتى البحر الأحمر معروفة ببلاد السودان . عندما حطت بِنَا الطائرة في مطار كانو بشمال نيجيريا ، كان الوقت فجراً لكن كل شيئٍ في المدينة يشبه غالب المدن السودانية ، وحينما تجولت فيها عند الصباح وجدتُ الناس وتنظيم الاسواق وطريقة تخطيط المدينة لا تختلف كثيراً عن الخرطوم أو مدني . يدعم هذا الإحساس تشابه ملامح الناس مع غالب سكان السودان . وكانو ، التي تعتبر من أغنى ولايات شمال نيجيريا يسكنها الهوسا ، وهي من المجموعات السكانية الكبيرة المنتشرة في كل مناطق السودان ، واعتدنا إصطلاحاً في عاميتنا السودانية على تسمية القبائل القادمة من غرب إفريقيا ( الهوسا والفولاني والبرنو والبرقو ) باسم الفلاتة ، وبرغم أن بعض المجموعات السكانية بالسودان تصنِّف الفلاتة كمجموعاتٍ أقل شأناً في تراتبية الأعراق السودانية ، لكن نتائج دراسة قدمها الدكتور هاشم يوسف حسن في حلقة دراسية بجامعة الخرطوم جديرة بالتوقف عندها . أُجريت الدراسة بالتطبيق على المجموعات والهجرات البشرية في السودان باستخدام العلامات الوراثية وذلك بإجراء تحليل الحمض النووي DNA على مستوى االكروموسوم الذكري و ( الميتوكوندريا ) ، هدفت الدراسة لمعرفة التركيبة الوراثية للمجموعات وعلاقتها ببعضها البعض وأصولها وهجراتها ، وكانت نتيجتها أن بعض الجعليين يحمل جينات مثل جينات الهوسا والفولاني . بروفيسور محمد أحمد الشيخ مدير جامعة الخرطوم الأسبق والمشرف على هذه الدراسة ، وصفها بالدقيقة والعلمية ، في حين ذهب البروفيسور منتصر الزين إلى أن الجينات التي أُخذت كعينة للدراسة غير كافية لتغطية كل القبائل السودانية بفروعها المختلفة ، مع ذلك يمكننا النظر لهذه الدراسة كبحثٍ يعطي نتائج اولية لمعرفة التركيبة الجينية لسكان السودان . نتائج هذه الدراسة تنسجم مع حقائق التاريخ والتي تؤكد دور الهوسا في ممالك السودان القديمة ، في دار مساليت والسلطنة الزرقاء وكان مندي ابو دقن وأبو التيمان من قادة جيوش المهدية كما تردد اسم حمزة عبدالله أبكر الشهير بحلَّاق المهدي . في أسمرا ، برغم طابع العمران الإيطالي في اغلب المباني ، لكن الجو والمزاج العام يتشابه بنسبةٍ كبيرة مع السودان ، كانت جارتي زودي بحي الرميلة بالخرطوم تصف لي أسمرا بأنها مدينة صغيرة يمكن كنسها في ساعة ، وأسمرا من شدة نظافتها تعتقد أن شوارعها تُكنَس وتُغسَل على مدار الساعة ، كل شيئٍ في مكانه تماماً . الجامع العتيق في قلب أسمرا لا يختلف عن مساجد الخرطوم القديمة . تختلف عنا أسمرا بنظام الحياة الدقيق والتوظيف الجيد لهبات الطبيعة ، فتتحول ماي ثروت من نبعٍ مائي يشابه قولو ومارتجلو بجبل مرة إلى قطعة من الجنة ، تستقبل السياح فتبهرهم بجمال الطبيعة بإفريقيا . ولن تتفاجأ اذا أوقفك أحدهم ليسألك عن مكانٍ ما بالمنطقة ، أذكر تلك السيدة المسنة التي أمسكتني من يدي بأحد شوارع أسمرا لتسألني عن مكانٍ ما ، لم أفهم مقصدها إلا من إشارات يدها فقد كانت تتحدث بالتغرينية كما أظن . تشابه ملامحنا مع الإرتريين والإثيوبيين يمكن قراءته على ضوء دراسةٍ أوردها ادكتور أحمد إلياس حسين أستاذ التأريخ بالجامعات السودانية في مقالٍ له ، سيأتي الحديث عنها لاحقاً هنا ، تؤكد أن السلالة A وفقاً لعلم السلالات الحديث الذي يقوم على تحليل ال DNA ، أن هذه السلالة منتشرة في شرق افريقيا خاصةً في السودان وإثيوبيا ( قبل التقسيم ) ، وتخلص الدراسة إلى أن أفراد هذه السلالة لم يهاجروا خارج إفريقيا . عندما ننتقل لجوار السودان الغربي ، تجد ان وادي اديكونغ الذي يفصل بين مدينتي ادري السودانية والتشادية لا يصلح الا ان نصفه بخطٍ وهمي ، فسكان المدينتين من القبائل الحدودية المشتركة بين الدولتين ، تتطابق الملامح والعادات والتقاليد واللغات المحلية ، ولن تعلم انك تخطيت حدود دولةٍ أخرى الا عندما تجد أمامك نقطة تفتيش تطالبك بإبراز جواز سفرك . التداخل الكبير بين القبائل الحدودية يجعل انجمينا مدينة سودانية بامتياز ، اسواقها كالسوق الشعبي بامدرمان ، ويصدح في حفلاتها مغنون سودانيون ، وقل ان تدخل متجرا بالسوق ولا تستمع فيه لاغانً سودانية ، تماماً كما الاسواق السودانية . وفِي مطعم الحديقة بوسط انجمينا تلتقي بالسودانيين من مختلف مناطق السودان ، أتوا الى شاد للتجارة او العمل بالتدريس او بعض الشركات ، ومن الطبيعي ان تتعرف على اسرٍ نصفها هنا والآخر في السودان . وتشاد تشاركنا أيضاً في سؤ التخطيط العمراني ورداءة الشوارع وعدم الاهتمام بنظافة الأماكن العامة والطرقات . لذلك نحن نعيش في محيط أفريقي تشدنا إليه روابط الانتماء للمكان وللمكون الأساسي لسكان افريقيا . يقول الدكتور أحمد الياس حسين في احدى مقالاته التي ضمنها كتابه المعنون ب ( السودان الوعي بالذات وتأصيل الهوية ) يقول أنه ووفقاً لعلم السلالات الجينية (Haplogroup) الذي حل حل محل التقسيمات التقليدية القديمة لسكان العالم ، أصبحت خريطة العالم السكانية ترسم وفقاً لنتائج أبحاث الحمض النووي DNA تحت إشراف جمعيات علمية عالمية متخصصة مثل International Society of Genetic Genology . وأنه ، والحديث للدكتور الياس ، وبعد تحليلٍ لل Y Chromosome لعدد 445من الذكور غير الأقرباء من خمس عشرة مجموعةٍ سكانية سودانية من مختلف أنحاء البلاد ، تتحدث ثلاث لغاتٍ مختلفة ، فإن نتيجة الدراسة أكدت ان سكان السودان ينتمون للمكون الأساسي لإفريقيا بنسبة 72% وانه لا يوحد جنس نقي وصافي لم يختلط بغيره .فالسودان استقبل هجراتٍ كثيرة من الصحراء الغربية ودخلت عناصر اخرى من الجنوب والشرق والشمال ، ذابت في سكان المنطقة . هل نحن أفارقة ؟ هل نرتبط بهذا المكان الذي نعيش فيه وعاش فيه أسلافنا منذ آلاف السنين ؟ هل اختلطت مكوناتنا السكانية لتشكل ما نحن عليه الآن ؟ نعم . أواصل
Type a message…