رأي

كتب عبد الرحمن الكلس: ما وراء خطاب (البرهان) إلى الأمم المتحدة ومذكرة حكومة الثورة إليها

بقلم: عبد الرحمن الكلس

حينما دفعت الحكومة الانتقالية الشرعية التي أطاح بها انقلاب البرهان، أكتوبر، 2021، بمذكرة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش، احتجاجًا على مشاركة القائد العام للجيش السوداني عبد الفتاح البرهان في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، هاج وماج فلول النظام السابق واشعلوا مواقع التواصل الاجتماعي والفضائيات بالصراخ والهتاف والتخوين.
في الواقع، لا أحد منهم تجرّد من عصبيته الأيدولجية وانتماءه التنظيمي لجماعة الإخوان (الكيزان) ؛ ممثلة في حزب المؤتمر الوطني المخلوع وبعض الإسلامويين من أحزاب أُخرى تتخذ من الإسلام السياسي هادياً سياسياً ومُرشداً أيدولجياً، مع بعض (البلابسة) – كما يطلق عليهم في وسائل التواصل الاجتماعي.
لا أحد منهم، تصدّى إلى خطاب الحكومة الانتقالية متجرداً من كل ذلك، لذلك كانت تحليلاتهم محض هتاف رخيص وهراء صفيق، إذ أنّ الخطاب الرصين تمكن من إصلاح وضع العجلة فحولها خلف الحصان بعد أن كانت أمامه، وبالتالي أصبح بوصلة مهمة لتشكيل المرحلة المقبلة، خصوصاً فيما يتعلق بالمفاوضات المتوقع استئنافها في (جدة) مُجدداً.

أشار أعضاء مجلس السيادة ( التعايشي – الفكي) وأعضاء الحكومة الشرعية المنقلب عليها برئاسة د. عبد الله حمدوك في خطابهم إلى الأمين العام للأمم المتحدة “انطونيو غوتيرش”، إلى أمر مهم جداً، وهو أن مشاركة البرهان في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، “يتناقض مع المواقف الدولية المعلنة المناهضة لانقلابات العسكرية”.
ووفقا للمذكرة التي حملت توقيع عبد الله حمدوك وعدد من أعضاء حكومته، فإن هذا المشاركة ترسل إشارات خطيرة ومشجعة للانقلابات العسكرية التي راجت مؤخرا في أفريقيا.
هذه محض تنبيهات ضرورية، لكنها تمثل أيضاً مواقفاً مبدئية تتسق مع مبادئ التحول المدني الديمقراطي وتناهض الوصول إلى السلطة عبر الانقلابات العسكرية، لكن الأهم من ذلك إنها ستجبر قائد الجيش وحلفاؤه من أزلام وفلول الكيزان على الجلوس إلى طاولة المفاوضات كطرف من أطراف الحرب الدائرة على قدم المساواة مع قوات الدعم السريع، وهذا أمر مهم جداً، لكونه يؤسس لتكون اليد العليا للمدنيين في المرحلة المقبلة، باعتبار أن طرفي النزاع يتبعان للمؤسسة العسكرية وعليهما العودة إلى ثكناتهما والاندماج في جيش موحد بما في ذلك الحركات المسلحة الموقعة على اتفاقية جوبا للسلام.

الخطاب نبّه الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى أن انقلاب المكوّن العسكري بمجلس السيادة برئاسة البرهان أدى إلى انهيار دستوري كلي. ما ترتب عليه حكومة أمر واقع سرعان ما انهارت باندلاع الحرب القائمة الآن، والتي اعتبرتها نتيجة مباشرة للانقلاب نفسه.
كما أشار إلى أنّ المؤسسات الإقليمية والدولية، بما في ذلك الاتحاد الأفريقي – الذي علق عضوية السودان- ومجلس الأمن الدولي، والاتحاد الأوربي، جميعها عبرت عن رفضها الانقلاب، وبعضها اتخذ قرارات تدين الانقلاب وتطالب بإعادة السلطة إلى المدنيين؛ لذلك فإن دعوة قائد الانقلاب لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة ممثلاً للسودان تتناقض مع المواقف المعلنة المشار إليها، كما أنها تساهم في إطالة أمد الحرب. وترسل إشارات خطيرة للغاية ومشجعة للانقلابات العسكرية، التي زادت مؤخراً في القارة الأفريقية.

لكن في التحليل السياسي لقبول الأمم المتحدة حضور البرهان إلى مقرها ومخاطبة جمعيتها العامة، لا بُد من النظر إلى ما حدث بعد ذلك، أي بعد خطاب البرهان الذي عبر عن النظام السابق صراحة، وعكس وجهة نظر دعاة الحرب (البلابسة)، لكن في نفس الوقت – وبعد أن ترجل البرهان من منصة الأمم المتحدة، وعلى هامشها، تعرّف على الأسباب الحقيقة لدعوته، ولربما لا يمكن للبيان أن يذكر مثل هذه الأمور فيفارق المهنية ويغرق في التحليل، لذلك التزم الرصانة الديوانية لكتابة الخطابات الرسمية، بينما بدا واضحاً أن البرهان (بلع) كل ماذكره في خطابه فور نزوله من المنصة مباشرة، إذ أكد في معظم مقابلاته التلفزيونية – عدا – الأولى منها، إنه مع الحل التفاوضي وأنه يمكن أن يلتقي (حميدتي) شخصياً ولا مانع لديه، وأنه مع مفاوضات جدة وهكذا.
علاوة على ذلك، وعقب لقاءه المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، ومواجهة الأخير له بانتهاكات الجيش وأنه والمؤسسة العسكرية سيخضعان للتحقيق حول الانتهاكات وقصف المواطنيين الأبرياء وقتلهم، وليس الدعم السريع وحدها، عرف البرهان أن الأمر جدّي وأن دعوته الشاذة والمضحكة للأمم المتحدة بتصنيف الطرف الآخر جماعة إرهابية دونها خرط القتاد، لأن مثل هذه المؤسسات لا تعير الخطب (الحماسية) اهتماماً، وإنما تؤسس مواقفها بناء على أدلة وشواهد موثقة، مثل أن الدعم السريع جزء من الجيش وتأسس بموجب قانون أجازة البرلمان 2017، ولم يلغه أحد، وأن البرهان وقادة الجيش هم من سموا قائد هذه القوات (حميدتي) نائباً للمجلس العسكري الانتقالي، ثم نائباً لرئيس مجلس السيادة وكالوا له المديح وأعلنوا عن محبتهم العميقة وامتنانهم له في غير مناسبة، ولهم في ذلك مقاطع فيديو ذائعة ومتاحة.
إذاً، فإن دعوة البرهان إلى الأمم المتحدة، لم تكن اعترافاً بشرعيته، كما يروج إعلام الفلول، وإنما كانت فرصة سانحة للأمم المتحدة والحكومة الأميركية والاتحاد الأوروبي للإلتقاء بالرجل وجهاً لوجه وتنبيهه وتحذيره من خطورة تصرفاته، وأنه سيدفع ثمن اشعاله الحرب وتحالفه مع المتطرفين والجهاديين والإرهابيين غالياً، وإشهار بعض الكروت الصفراء أمام وجهه في الغرف المغلقة، كورقة العقوبات التي كان من المفترض أن تصدر ضد كل من يروج للحرب في فريقه، وهذا بالضبط ما جعله (يبلع) خطابه الرسمي، الذي كتبه الفلول ممثلين في مبعوث السودان لدى المنظمة الدولية، كما كان موجهاً لهم أيضاً، وليس للأمم المتحدة.
موقف البرهان – تغيّر كلياً – بعد خطابه، وعقب مقابلاته المتعددة مع مسؤوليين دوليين وأميركيين وأوربيين وإقليميين، وبالتالي يمكننا القول إن الرجل دُعيّ من أجل تقريعة وزجرة، وليس تحذيره فقط، وستبدي الأيام المقبلة ذلك، فلننتظر لنرى، هل سيهرع إلى منبر جدة أم يلتزم سردية (بل بس) ويمضي في الحرب إلى آخر جندي كما زُلّ لسانه مرات عديدة، ربما إرضاء أو خشية من الفلول الذين يسيطرون على الجيش من خلال ضباطهم في قيادته.

عود على بدء، فإن خطاب الحكومة الشرعية بقيادة د. عبد الله حمدوك إلى الأمم المتحدة، سيحدث فرقاً كبيراً في مواقف بعض الدول، وكذلك في شرعية البرهان الزائفة المدعاة التي تعترف بها دولة أو أثنين فقط، وهاتان لن تستمرا في ذلك، بعد أن اتضح لهما أن الرجل عجز عن حسم الحرب خلال ستة أشهر، بل أن الموقف العملياتي في الخرطوم لصالح قوات الدعم السريع، وأن الدعاية التي يمارسها سدنة النظام البائد على الفضائيات لم تجد نفعاً، ولن تجدي فتيلاً.
على كلٍ، فإن قراءة الخطاب في هذا السياق، ستجعلنا نرى بوضوح مدى أهميته وتأثيره على الأوضاع والمواقف السياسية داخلياً وخارجياً، وهذا ما جعل الفلول تهتاج وتُجن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى