تحقيقات

مشاهدات عائدة من “الوطن الجريح”.. الحلقة الأولى

أمل سرور

في هذه المساحة نعيد نشر سلسلة حلقات “مشاهدات عائدة من الوطن الجريح”، التي أنجزتها الصحفية الاستقصائية المصرية المعروفة أمل سرور، لصالح صحيفة “المصري اليوم”، بعد أن سمحت الكاتبة لـ”الجماهير”، باعادة نشر هذه السلسلة الوثائقية المهمة. 

رصاصات لا تتوقف.. مرارة لا تنتهي.. مشاهد عبثية مؤلمة.. لمدافع تخشي نظرات أطفال لا يهابون الموت.. ولا يأبهون بسجون يمارس فيها جنود الاحتلال ضدهم شتي أنواع القتل والاعتقال والتعذيب.. الرحلة إلي الأرض المحتلة مغامرة محفوفة بالألم.. محاطة بالخوف.. والترقب لحظة الوصول إلي أرض الوجع.. والأمل.. والألم، حيث قلوب تناضل.. وأجساد لا تخشي الرصاص.. ومحتل يقتل دون رحمة..

في هذه الرحلة.. ذهبنا إلي زهرة المدائن، القدس.. الأقصي حيث مكاتب التفتيش والمراقبة التي ترصدك في كل مكان.. وحفريات تحت أساسات المسجد تهدد بتدميره في كل لحظة، كما ذهبنا إلي كنيسة القيامة، وهناك يمنع جنود الاحتلال المسيحيين ورجال الدين من دخولها.. كما وضعوا نقاط التفتيش حولها من كل اتجاه.

في هذه الرحلة نكشف كيف يعيش أصحاب الأرض من أبناء الوطن الجريح منعزلين في «جيتوهات» و«كانتونات» وخلف جدار عازل طوله ٧٨٠ كيلومترًا من الكتل الأسمنتية والأسوار الشائكة المكهربة تم بناؤه لحماية المحتلين والمستوطنين.

في هذه الرحلة.. وقفنا وجهًا لوجه أمام قوات الاحتلال في بلدة «نعلين».. وسجلنا كيف يقمع الاحتلال الانتفاضة بالرصاص والجرافات وكيف يتركون الشباب الفلسطيني الذي يتعرض للإصابة ينزف حتي الموت.. وكيف يضربون النساء والشيوخ ويقتلون الأطفال.

باختصار في هذه المرحلة.. مشاهدات من الجرائم التي ترتكب ضد شعب هذا الوطن.. وحوارات مع عدد من رموزه.. وإلي الحلقة الأولي من هذه الرحلة.

ابني.. صاحب العام والشهرين في هذه الدنيا هو السبب الأول والأخير وراء كل كلمة ستقع عيناك عليها عبر السطور المقبلة.. طفلي هو الذي دفعني دفعاً وغصباً للذهاب بقدمي وبكامل إرادتي وقواي العقلية والثقافية والوطنية، وبكل مشاعري الكارهة والحانقة والرافضة والغاضبة والمتألمة إلي ٦ ش ابن مالك بالجيزة!

حق صغيري وهويته وحريته وكيانه واستقلاليته ووجوده وعودته الآتية حتماً يوماً ما إلي أرضه وتراب وطنه المغتصب النازف دماءه، أكبر بكثير من كل الأقاويل التي ربما ستتردد مشيرة إلي بأصابع التطبيع.. نعم.. أعترف وأقر وأصرح وأعلن بصوت عال وجريء وثابت ودون أي محاولة للتهرب والإخفاء.. أقولها وكلي حزن وألم وشجن ومرارة وأسف.. حصلت علي التأشيرة الإسرائيلية من سفارة إسرائيل بالقاهرة، والتي يرفرف علمها عالياً مطلاً علي ضفاف نهر النيل العظيم..!!

لا مفر ولا بديل، وكما يقولون «من أجل الورد ينسقي العليق»، ومن أجل طفلي فقط دخلت الوطن الجريح.. فلسطين.. حكايتي ليست طويلة ولست من هواة الحديث عن أنفسهم كثيراً، خاصة أنني لست من مشاهير الفن والطرب أو الكرة الذين يتابعهم الجمهور لحظة بلحظة ولكن الظروف التي مررت بها وخوضي هذه التجربة الفريدة من نوعها، وهي السفر إلي فلسطين المغتصبة تحتم علي أن أثقل عليك قليلاً، لتسمح لي أن أسرد قصتي التي بدأت بزواجي من الطبيب الفلسطيني «ماجد محمود سليم»، اخترت هذا الرجل ليكون نصفي الآخر..

وهو مثله مثل كل أبناء الشعب الفلسطيني.. ناضل وقاوم، احتجز في السجون الإسرائيلية ولاقي أهوالاً وألواناً من التعذيب، الذي مازالت آثاره محفورة في جميع أنحاء جسده، وبعد الإفراج عنه وضع تحت الإقامة الجبرية لمدة ٤ سنوات، أبعدوه وطردوه بعدها عنوة عن وطنه، ليظل هائماً مغترباً بلا وطن سوي قلبه، ما بين أوروبا وروسيا والولايات المتحدة، وكانت مصر هي محطته الأخيرة، تزوجنا وتكلل الزواج بطفلنا «إسلام»، الذي ولدته في القاهرة بين أحضان نيلنا وحضارتنا ومن حسن حظه أنه حصل علي الجنسية المصرية بعد القانون الجديد، فأصبح مصرياً لأن أمه مصرية.

ولكن لم ننس أنا ووالده لحظة واحدة منذ أن احتضناه بيننا أنه فلسطيني، أصله وفصله وعنوانه هناك علي تلك الأرض الجريحة، من هنا بدأت الحكاية لنحمل معها مسؤولية تسجيل هذا الطفل في السجلات المدنية في دولة فلسطين المغتصبة.. ولكي يسجل هناك ويحصل علي الجنسية والهوية وشهادة الميلاد وجواز السفر الفلسطيني يجب أن يدخل الأرض المحتلة، وهو ما يتطلب دخول أمه ووالده.. الاثنان معاً..

أعترف بأنني فكرت كثيراً وربما ترددت أكثر، فالقرار بالنسبة لي ليس سهلاً علي الإطلاق، بل كان من خامس المستحيلات أن أدخل الأراضي الفلسطينية بتأشيرة العدو المغتصب الذي سيظل عدونا جميعاً.. لكنها المسؤولية التي حملتها علي عاتقي منذ أن كان طفلي يضرب بقدميه الصغيرتين في أحشائي معلناً وجوده، وحتي لا يحاسبني عندما يكبر ويصبح رجلاً فيسألني هذا السؤال.. «ليه يا ماما مخلتينيش آخد جنسية وطني؟ ليه يا ماما أنا مش مواطن فلسطيني زي أبويا»؟!!، ولذلك كان القرار حاسماً لأذهب ويكون ما يكون.. لينصبوا لي المشانق.. وليتهموني بأبشع التهم.. ولكن ستحمل هويتك الفلسطينية يا صغيري.

مشهد (١)

سجل.. أنا عربي

برأس الصفحة الأولي

أنا لا أكره الناس

ولا أسطو علي أحد

ولكني إذا ما جعت

آكل لحم مغتصبي

حذار.. حذار من جوعي

ومن غضبي

لم تفارقني تلك الأبيات للشاعر الفلسطيني الراحل «محمود درويش»، طوال طريقي إلي السفارة «الإسرائيلية» بالقاهرة.. حالة من التجهم والصمت بل والذهول انتابتني، ومشاهد كثيرة لم تفارق مخيلتي.. نكسة ١٩٦٧ وأسرانا الذين دفنوا أحياء ودماء الشهداء ونحيب الأرامل، أطفال مدرسة «بحر البقر» ومذابح «دير ياسين» و«صابرا وشاتيلا» و«قانا» و«الحرم الإبراهيمي»، مرور ٦٠ عاماً علي النكبة واحتلال الأراضي الفلسطينية، يومها ارتدي طفلي «تي شيرت» كنت طبعت عليه العلم الفلسطيني وكتب عليه «عائدون».

أفقت من ذهولي وأنا أقف أمام كوبري الجامعة.. أرفع رأسي عالياً لأنكسه علي الفور عندما اصطدم بـ «نجمة داود» المطبوعة وسط العلم «الإسرائيلي» المرفرف!.. وقفت ما يقرب من ربع ساعة.. تائهة وحائرة.. مترددة، كما يقولون «أقدم خطوة وأؤخر عشر».. ودخلت بعد أن سجلت اسمي عند مكتب أمن الدولة المصري في مدخل العمارة!!، وصلت إلي الدور السادس عشر، فالمصعد لا يصعد إلي الدور السابع عشر حيث تقع السفارة! «سفارة دولة إسرائيل بالقاهرة» لافتة تصطدم عيناك بها عندما تصعد بقدميك إلي الدور الأخير حائط سد وباب مغلق وجرس صغير.. بغضب وحنق ضغطت علي زر الجرس فأتاني صوت يتكلم العربية بضعف..

«ماذا تريد؟»

قلت.. «المسؤولة الإعلامية شانية»..

«انتظر»

دقائق وفتح الباب إلكتروياً.. أدخل فيقابلني رجل أمن مصري يطلب مني أن أضع كل متعلقاتي علي الجهاز الإلكتروني، وأدخل عبر بوابة إلكترونية، ألبي كل ما يطلب مني، وبعد التفتيش الدقيق يطلب مني أن أترك حقيبتي ولا آخذ سوي النقود والأوراق المطلوبة!!

نسيت أن أقول لكم إنني كنت قد طلبت «شانية» المستشارة الإعلامية في السفارة هاتفياً، وقلت لها إنني أريد تأشيرة لزيارة أهل زوجي في مدينة «الظاهرية» التابعة لمحافظة «الخليل» وأنني سوف أقوم أيضاً بعمل ملفات صحفية مصورة، فكانت إجابتها كالتالي: «إنني سأقدم لك كل التسهيلات التي لم أقدمها لأي شخص آخر، فأنت من الصحافة المصرية وهذا ما يهمنا».. والحق أنني لم أعلق نهائياً، فقط اكتفيت بأخذ موعد للذهاب إليها..!!

بعد انتهاء إجراءات التفتيش.. فوجئت بأن علي أن أصعد أدراج سلم آخر لأواجه حائطاً سداً وجرساً علي اليمين قبل أن أضغط عليه فتح الباب، فشاشات المراقبة في كل الأنحاء حولي كفيلة بأن يعرفوا من خلالها أنني لا أحمل سلاحاً.. إذن أنا الآن في السفارة، عرفت ذلك ما إن وقعت عيناي علي صورة كبيرة للرئيس «السادات» مصافحاً فيها «بيجن»، وكتب تحتها بالعبرية والعربية «معاهدة كامب ديفيد للسلام»، وأمام الصورة لافتة تحمل «ممنوع الدخول بالأسلحة البيضاء».

ردهة طويلة مشيت فيها وما إن وصلت إلي الباب المغلق حتي فتح إلكترونياً، دخلت لأجد مجموعة من النوافذ يقف وراءها الموظفون الإسرائيليون، أفصح لك أنني حاولت أن أكتم دموعي التي كانت علي وشك الانهمار ونجحت.. كتمت غيظي واستفزازي وسألت الموظفة عن «شانية» فأجابتني أن لديها اجتماعاً ولكني في انتظارك.

قدمت لها كل الأوراق المطلوبة من جواز السفر وقسيمة الزواج وشهادة ميلاد ابني إسلام.. ومبلغ ١٠٠ جنيه، سألتني.. «أين تريد الذهاب في إسرائيل؟!» أجبتها تلقائياً وبدون تفكير «كل فلسطين»، امتعض وجهها – هكذا أحسست – وأخذت كل الأوراق وطلبت مني أن أعاود الحضور بعد ١٥ يوماً للحصول علي تأشيرة الدخول لأنهم سيرفعون الأمر لوزارة الداخلية الإسرائيلية في تل أبيب.

غادرت السفارة وتركت جواز سفري عندهم، غادرتها وأنا في حالة يرثي لها.. حالة من الحزن والشجن والغيظ والغضب.. ولكن لا محالة سأذهب إليهم مرة أخري ولتكن الأخيرة بعد ١٥ يواماً..!!.

مشهد (٢)

طوال فترة الـ ١٥ يوماً كنت أعد عدتي الصحفية، فإذا كان القدر يجعلني أذهب إلي أرضنا المحتلة، وهي حلم أي صحفي لنقل الأحداث، والحقائق علي أرض الواقع، خاصة أنها البؤرة الساخنة في العالم أجمع، فلن أجعل تلك الفرصة تفوتني، بل سأجعل من زيارتي الإنسانية ملفاً أو مجموعة من الملفات الصحفية المصورة، عما تفعله الأيدي الصهيونية في جميع مدن الضفة الغربية، التي بالتأكيد تخفي أحداثاً وأسراراً لا نعرفها حتي من شاشات الفضائيات التي تركز علي ما يحدث في قطاع غزة فقط.

وسط أحلامي بالإعداد لهذه الرحلة كانت الـ ١٥ يوماً قد مضت، وعلي أن أذهب إلي أبواب السفارة الإسرائيلية مرة أخري.. لم تختلف حالتي كثيراً عن الزيارة الأولي، اللهم إلا معرفتي هذه المرة بحالة التفتيش التي تدل علي خوف الظالم والمعتدي، وقفت عند النافذة لتحدثني فتاة إسرائيلية تدعي «آياه» قائلة: «تأشيرتك وصلت ولكن غير مسموح لك بالدخول إلي الأراضي الفلسطينية أو أراضي السلطة، فقط تدخلين الأراضي الإسرائيلية»، بالطبع تقصد مناطق الخط الأخضر وهي «حيفا ويافا وعكا والناصرة وتل أبيب».

أصابني كلامها في مقتل، وقلت لها بشيء من العصبية.. «عفواً لا أفهم أريد «شانيه» المسؤولة الإعلامية أو أي مسؤول عنا»، غابت قليلاً وإذا بشخص يدعي «خاي»، المسؤول عن التأشيرات قال لي بالحرف إن «وزارة الداخلية الإسرائيلية سمحت لك بالعمل الصحفي داخل إسرائيل فقط ولكن ليس في المناطق التي تشرف عليها السلطة الفلسطينية»!! قلت له «ولكن سبب دخولي هو زيارة أهل زوجي في الظاهرية أي مدينة الخليل، ثم إنكم تفرضون علي كصحفية أن أتكلم مع الإسرائيليين فقط، ولا أسمع أو حتي أري الفلسطينيين هذا ليس من حقكم»!.

كان صوتي بدأ يعلو ومعه ضغط دمي أيضاً ويبدو أنه لاحظ هذا فقال لي مسرعاً مغادراً النافذة الفاصلة بيننا «تلك أوامر الداخلية، وعندما تصلين إلي تل أبيب تستطيعين أخذ تصريح من وزارة الداخلية الإسرائيلية هناك، هم فقط يستطيعون إدخالك وليس أي شخص آخر!، اختفي «خاي» عن أنظاري واستلمت جواز سفري الملوث بتأشيرتهم.

«هم لعبوها صح» هكذا كنت أردد في صمت وأنا سائرة في الشارع كالتائهة، رفضوا دخولي أراضي السلطة لمنعي من تسجيل ابني في السجلات المدنية الفلسطينية، ومن ممارسة عملي الصحفي في مناطق السلطة.. إذ هم نصبوا لي فخاً محكماً..

وعندما اتصلت هاتفياً بعدة جهات في فلسطين جاءتني الإجابة ساخرة ضاحكة مرددة بأنك طالما حصلت علي التأشيرة فيمكنك الدخول في جميع الأراضي، ولكن عندما يحدث هذا وتقومين بنشر عملك الصحفي من داخل مناطق الضفة الغربية ورام الله لن تدخلي فلسطين مرة أخري، لأنهم ببساطة سيضعونك في القائمة السوداء أي الـ «Blak List».. وعلي الفور حزمت أمتعتي وجهزت عدتي الصحفية.. وأخذت ابني علي كتفي ووضعت يدي في يد زوجي واتجهنا جميعاً إلي مطار القاهرة الدولي.

مشهد (٣)

«الأردن» هي بوابة الدخول الوحيدة لنا وللفلسطينيين جميعاً إلي الوطن الجريح.. عبر جسر الملك حسين، أو كما يطلقون عليه «جسر اللنبي»، وصلنا إلي الأردن وأنهينا بعض الإجراءات الخاصة بإضافة طفلي علي جواز سفر والده الأردني والتي استغرقت يومين.. قابلت العديد من أصدقاء زوجي الفلسطينيين المقيمين في الأردن الممنوعين من الدخول إلي أرضهم، لأنهم لا يملكون حق العودة، تحدثوا معي كثيراً عن جمال وعبقرية أرضهم وعن هوائها الذي لن أجد له مثيلاً في العالم، ورائحة ترابها وزيتونها وأعنابها، وعن بيوتهم القديمة وأحيائها ومفاتيح منازلهم التي مازالوا يحتفظون بها في قلوبهم قبل جيوبهم، كلهم أمل ويقين بأنهم عائدون قبل أن أودعهم مغادرة إلي أرضهم المنشودة.

سألت سيدة عمرها من عمر النكبة: «هل تريدين شيئاً بعينه أشتريه لك من فلسطين»؟ فوجئت بدموعها تنسال علي خدها قائلة بحزن وتوسل وصوت مكسور: «شوية تراب من أرض فلسطين» تركتها محدثة نفسها، هو الشئ الوحيد الذي لا يشتري، في حين أنه غالي جداً بل إنه حتي لا يقدر بثمن..

مشهد (٤)

تاكسي من وسط العاصمة «عمان» يحملنا بحقائبنا إلي جسر الملك حسين، قلب يخفق وصوتي يختنق ودموعي تنساب ويداي تحتضنان صغيري بقوة، وجه «ماجد» زوجي اختلف، لم أر في عينيه ذلك اللمعان والبريق منذ أن تزوجنا ولم ترتسم تلك الابتسامة علي وجهه منذ أن عرفته، سألته: «إحساسك إيه وأنت داخل علي فلسطين»؟!، أجابني بسرعة «وطني يا أمل»!!.

كلمته كانت كفيلة بتفسير ما هو غامض ومبهم لي، وصلنا الحدود وأخذنا تأشيرة الخروج من الأردن وفي هذه اللحظة افترقنا! فارق ابني حضني وذهب مع والده في سيارة، أما أنا فقد لحقتهما في سيارة أخري، طمأنني «ماجد» قائلاً: أنت ستعاملين معاملة الأجانب، أما أنا فمواطن وسوف يصحبني «إسلام» لأنه مقيد علي جواز سفري الأردني!

بعد ما يقرب من نصف ساعة وصلنا بوابة الحدود فقط استوقفت السيارة التي كنت فيها نقطة تفتيش إسرائيلية.. من النافذة طلبت المجندة وهي امرأة مدججة بالسلاح الهويات ففتحت جواز سفري علي تأشيرتهم المشؤومة وكذلك كل الراكبين معي ففتحت لنا البوابة ومررنا.

كتل من اللحم البشري واقفة علي البوابات، طوابير لا مثيل لها من الفلسطينيين، تقف تحت الشمس الحارقة من أجل الدخول إلي وطنهم، كم من التفتيشات لم أره في حياتي.. وقفت أبحث عن زوجي وطفلي وجدتهما وقد أخذا مكانهما في الطابور، قررت أن أقف لولا سائق السيارة الذي نبهني أنه ممنوع علي الوقوف مع الفلسطينيين، ومن المفترض أن أدخل من بوابة الأجانب، دخلت بالفعل واستوقفني أول جندي طلب مني جواز السفر، ما أن رآه حتي قال بفرحة لم يستطع أن يخفيها وباللغة العربية.. «مصرية؟!»، قلت له «نعم»، فرد «مرحباً بك في إسرائيل»، لم أرد عليه.. فقط مشيت وراءه لينهي إجراءاتي.

أعترف بأن حالة من الخوف انتابتني خاصة عندما تذكرت أنني أحمل تأشيرة لا تسمح لي بالدخول للأراضي الفلسطينية، ولكنني وبعد أسئلة الإسرائيلية الجالسة إلي النافذة، أين سأذهب وأين سأقيم؟، تلخصت إجابتي في أنني سأزور كل إسرائيل وأولها القدس وأنني سأقيم في فنادق، أعطتني ختم الدخول.

أنهيت إجراءاتي في أقل من ربع الساعة، وانتظرت بالخارج لأكثر من ٣ ساعات حتي ينهي زوجي وابني إجراءاتهما، وعندما قابلتهما سألت «ماجد» عما حدث، فقال لي: إنهم طلبوا منه أن يغير اسم «إسلام» وأن يسميه «سليم» مثلاً، لم يكن أمامه سوي أن يقول إن شاء الله ولكن عندما أدخل!

مشهد (٥)

«أمل.. أنت في فلسطين.. تلك هي أريحا»، هكذا جاءني صوت «ماجد»، وجدتني أتنهد بحرقة وأدندن بأغنية الشيخ إمام التي كتبها الشاعر أحمد فؤاد نجم..

يا فلسطينية والبندقاني رماكوا

يا فلسطينية وأنا بدي أسافر حداكوا

ناري في إيديا وإيديا تنزل معاكوا

علي رأس الحية وتموت شريعة هولاكو

إحساس لا يوصف، صدقني لو قلت إن القلم يعجز عن التعبير عما كنت عليه، حالة من حالات «اللخبطة»، سعادة وحزن، ابتسامة ودمعة، همست في أذن صغيري الذي كان نائماً مستغرقاً بين أحضاني من عناء الرحلة قائلة.. «ياه.. أنت في وطنك.. أنت في فلسطين.. قوم شوف جمالها.. جبالها وخضرتها.. لوزها وزيتونها.. ريحتها حلوة أوي وهواها بجد مختلف».

رفعت رأسي ونظرت من نافذة السيارة لأجد العلم الإسرائيلي، علي كل شجرة.. في كل مكان، في هذه اللحظة انكسرت فرحتي بجد، ما أن تقع عيناك علي نجمة داوود المرفرفة حولك، والتي تلاحقك في كل مكان تسير فيه إلا تشعر بالانكسار، والإذلال والظلم، تحاول أن تبتلع ريقك فلا تجد فيه سوي طعم المرارة!!..

وبعد ما يقرب من ٤ ساعات وصلنا «الظاهرية» عند أهل زوجي، استطاع استقبالهم الحار لنا ولحفيدهم الذي يرونه لأول مرة أن يخرجني من حالتي نوعاً ما، بالمناسبة «إسلام» هو الحفيد رقم «٥٢» لوالد زوجي «حمود سليم» كنت أظن أن الليلة ستمضي هادئة ولكن الساعة ٢ فجراً طلبت مني «فاطمة جراد» حماتي أن أطلع إلي سطح المنزل لأري «اليهود» في الظاهرية.

صعدت السلم مسرعة ليستقبلني أول مشهد حي ٣ عربات جيب عسكرية مصفحة تمشي في شوارع المدينة وقد خرج ما يقرب من ٢٠ شاباً يحملون في أيديهم حجارة يلقون بها علي الجيب، تلقائياً وجدتني آخذ حجراً من ضمن الحجارة الملقاة علي سطح المنزل لألقي به أنا الأخري، جذبتني حماتي لنقع أنا وهي علي الأرض وإذا بضرب الرصاص الحي ينهال ويدوي في الأجواء، ضحكت حماتي قائلة.. «كنت هتموتي في أول يوم.. طيب استني لما تشوفي الضرب اللي بجد»!!

مشهد (٦)

شهر كامل بالتمام والكمال قضيته في تلك الأرض الطاهرة، علي هذا التراب المغتصب دون وجه حق، شهر كامل حصلت فيه أولاً علي ما كنت ذاهبة من أجله، علي جنسية «إسلام» وشهادة ميلاده الفلسطينية، دون أن نغير اسمه كما طلب الإسرائيليون أما الأمر الثاني فأعتقد أنني أيضاً أنجزته..

أن تسمع عن الظلم والذل والمهانة التي تمارسها قوات الاحتلال الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني شيء، وأن تراه بعينيك وتلمسه بيديك وتتعرض له شئ آخر.. أن تسمع صوت فيروز مهللاً «إليك يا مدينة الصلاة أصلي»، غير أن تسمع وأنت تسير في شوارع القدس العتيقة.!!، فيها مشيت وبقبة صخرتها وأقصاها وقيامها ومهدها التقطت الأنفاس!!.

رحلة طويلة أصبحت فيها عبر ملفات مقبلة.. أنقل فيها إليك ما رأيته وما سمعته، مسؤولية وأمانة كبيرة حملها لي تراب تلك الأرض المحتلة والمغتصبة.. أعترف أنني أشعر بأن أكتافي تؤلمني من ثقل ما أحمله، من القدس وكنيسة القيامة والمسجد الأقصي وقبر «عرفات» وحصار «نعلين» وآهات «مروان البرغوثي» و١١ ألف أسير في السجون الإسرائيلية.

كل حجر وذرة تراب لها عندي كلمة.. بل كلمات فهل سوف أكون علي قدر الأمانة والمسؤولية التي حملتها علي أكتافي من هذا الوطن الجريح؟، هل سأنجح بالفعل في اصطحابك معي في هذه الرحلة بكل تفاصيلها المحزنة والمليئة برغم كل الآلام بالأمل؟، إن نجحت فهذا كل ما أتمناه، وإن فشلت يبقي لي شرف المحاولة.

amalsuror@yahoo.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: شارك الخبر، لا تنسخ